أهمية التوحيد ( 2 – 2 )
الوقفة الثالثة:
فضل كلمة التوحيد، حيث ورد في فضلها آثار كثيرة اقتصر على بعضها:
من ذلك أنها سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، فمن قالها معتقداً معناها، عاملاً بمقتضاها - قولاً وفعلاً - فليبشر بدخول الجنة والنجاة من النار، بشهادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم- فمما ورد في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سمع مؤذناً يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله)، فقال - صلى الله عليه وسلم-: (خرجت من النار).
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله حرم الله عليه النار).
وفي الصحيح أيضاً عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
ومن فضل لا إله إلا الله أن أهلها هم أسعد الناس بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، كما جاء ذلك في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه).
ومن فضلها أيضاً أنها أفضل ما ذكر الله -عز وجل- به، وهو أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة، جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن موسى - عليه الصلاة والسلام - قال: يا ربّ علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل لا إله إلا الله قال موسى، يا رب كل عبادك يقولون هذا قال ياموسى، قل لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله، إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله).
ومن فضلها أيضاً أنه لا يحجبها شيء دون الله - عز وجل-، لما أخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما - قال: (لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه).
وروى الترمذي أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما من عبد قال لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي العرش، ما اجتنب الكبائر).
ومن فضلها أيضاً أنها أمان من وحشة القبور، والحشر والنشور، روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله وقد قاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
وهي أعلى شعب الإيمان، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (الإيمان بضع وسبعون - وفي رواية: بضع وستون - شعبة، فأفضلها - وفي رواية: فأعلاها - قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
إلى غير ذلك من فضائل هذه الكلمة العظيمة التي تكفي أنها دلالة على إيمان من قالها وعمل بها، فهي الفاصلة بين الإيمان والكفر.
الوقفة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: (وأن محمد عبده ورسوله) معنى ذلك: أن يشهد العبد أن محمداً عبد الله ورسوله.
فقوله: (عبد الله) يعني: المملوك العابد، فهو مملوك لله تعالى، وليس له من الربوبية والإلهية شيء، فإنما هو عبد مقرب، كلّفه الله تعالى بالرسالة وشرّفه بها.
وشهادة أن محمداً رسول الله تعني طاعته فيما يأمر به، وتصديقه فيما يخبر به، واجتناب ما ينهى عنه، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع، وهنا تكمن محبته - صلى الله عليه وسلم-، وبهذا يكمل معنى الشهادتين، فلا يقوم بشهادة أن لا إله إلا الله من يجحد أن محمداً رسول الله، ولم يكن مسلماً حقاً من ترك أمره - صلى الله عليه وسلم-، وأطاع غيره، وارتكب نهيه، وشك في أخباره.
وبهذا نعلم أن هناك صنفين من الناس يخطئون في هذه الشهادة:
صنف يغلو فيها حتى يجعل للرسول - صلى الله عليه وسلم- ما ليس له من صفات الإلهية، فيدعونه من دون الله تعالى، ويتوسلون إليه، ويتمسحون به، وهم في واقع الأمر يرتكبون نهيه، ويخالفون أمره، ويبتدعون في دينه ما ليس منه، كمن تراه يخالف أوامره ليل نهار، ويدّعي محبة النبي - صلى الله عليه وسلم- بإعطائه صفات الله - سبحانه وتعالى-، فهؤلاء - ولا شك- أخطأوا الطريق، وجانبوا الصواب، ويُخشى عليهم من العقاب.
والصنف الآخر من يقر بذلك، ولكنه يخالف أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم-0فيتساهل في الصلاة مثلاً، أو لا يؤدي الزكاة، أو بعضها، أو يخدش صومه... وهكذا، ويرتكب ما نهى عنه - صلوات الله وسلامه عليه- بقوله، أو فعله، كمن يكذب، ويغش، ويخادع، ويمشي بالغيبة والنميمة، ويرتكب الفواحش من الزنا، واللواط، والنظر إلى المحرمات، والاستماع إليها، ونحو ذلك.
فهذان الصنفان لم يحققا شهادة أن محمدا رسول الله، ولا يكمل الانتفاع بهاتين الشهادتين إلا بتحقيقهما قولاً، وفعلاً، وعملاً، واعتقاداً.
الوقفة الخامسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وفي رواية: (وابن أمته).
فهذه الجملة فيها بيان بطلان ما يعتقده النصارى أن عيسى هو الله، أو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، يقول سبحانه وتعالى عن نبيه عيسى: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقياً * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون).
فمن خلال هذا النص الكريم من الرب الرحيم يتبين أن عيسى - عليه السلام - عبد الله، وأنه ليس كما يدعي النصارى أنه معبودهم، يقول سبحانه وتعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون).
الوقفة السادسة: قوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه).
قال الإمام أحمد: الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: (كن)، فكان عيسى بـ (كن). وقال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل - عليه السلام - إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه - عز وجل-، فكان عيسى بإذن الله - عز وجل-، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأمّ، والجميع مخلوق لله - عز وجل-.
قوله: (وروح منه) قال أبيّ بن كعب: عيسى - عليه السلام - روح من الأرواح التي خلقها الله - عز وجل-، واستنطقها بقوله (ألست بربكم؟ قالوا: بلى)، بعثه الله إلى مريم فدخل فيها.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: (وروح منه) يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله تعالى: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) يقول: من أمره.
الوقفة السابعة: معنى قوله: (والجنة حق، والنار حق) أي: وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق، أي: ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسوله حق كذلك، كما قال تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، وقال تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين).
الوقفة الثامنة: ذكر العلماء - رحمهم الله تعالى - أن الإيمان بأن الجنة حق، والنار حق، وأن الجنة أعدت لمن آمن بالله تعالى، وأن النار أعدت للكافرين، ذكروا - رحمهم الله - أن هذا من الإيمان باليوم الآخر الذي هو الركن الخامس من أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
فالجنة والنار حق لا ريب فيهما، ولا شك، فالجنة أعدت داراً لأولياء الله، والنار أعدت دار لأعداء الله، يقول سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون * يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون * يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار)، ويقول سبحانه: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)، ويقول سبحانه: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين * وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار...)، ويقول سبحانه: (وكفى بجهنم سعيرا * إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيما * والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً)، ويقول جل من قائل: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم * دعواهم سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
وعليه فلا بد للمؤمن أن يوقن بهما يقينًا تاماً، ويعد العدة لهما: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
ومما يدل على ما ذكر في هذا الحديث من قرن الإيمان بالجنة والنار مع الشهادتين، ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يتهجد قال: (اللهم لك الحمد، أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم- حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك).
الوقفة التاسعة:
أن المسلم لا يكفي منه أن يؤمن إيمانا نظرياً بأن الجنة حق والنار حق، بل لا بد أن يقرن ذلك بالعمل بما يدل على إيمانه بهما، وأن الخلق مآلهم إليها، لا بد أن يصدق الإيمان النظري القولي إيمان عملي، فيطبق أحكام الإسلام في واقع حياته العملية، فمن يحب أن ينجح في الاختبار لا بد وأن يذاكر ويستعد، ومن يريد أن يصل سالماً وهو مسافر بسيارته لا بد وأن يحسب حسابه قبل ذلك، ومن يريد تحقيق الإيمان لا بد من قرن العمل بالقول والاعتقاد، لكن من خالف ذلك بعمله، فجزاؤه وفاقا من جنس عمله.
الفائدة السادسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
هذه الجملة جواب الشرط الذي في أول الحديث، حيث قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق..) الجواب عن ذلك: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية: (أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية).
هكذا جزاء من وحّد الله تعالى، واتبع رسوله - صلى الله عليه وسلم-، وآمن باليوم الآخر، فمآله إلى الجنة؛ جزاء من ربك عطاء حسابا.
ويفهم من أن من خالف ذلك، كمن لم يوحد الله تعالى، ولم يتبع نبيه - صلى الله عليه وسلم-، أو كذب باليوم الآخر، ونحو هذا، فمأواه النار والعياذ بالله، جزاء وفاقا.