هل يعلمنا القرآن الكريم والسنة النبوية صناعة المستقبل..؟

 

سؤال غاية في الأهمية. لماذا؟

لان الماضي انتهى، وبقي محلاً للعبرة والعظة، واستلهام الدروس، والإفادة من التجربة.

ولأن الحاضر محل العمل لما سبق التخطيط له، ولما يفرضه الواقع.

ويبقى الأمل في ما يعلقه الفرد، أو المؤسسة في المستقبل لتحقيق طموح، وبلوغ غاية، ومعالجة مشكلة، وتجاوز عقبة.

*   *   *

وبناء على ذلك تتأكد صناعته للمستقبل بشيء من الاحتراف والدقة والنظر في العوامل المؤدية إلى ذلك.

ولتقرير ذلك يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ).

*   *   *

والمبدأ نفسه تقرره السنة النبوية فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل بهذا المبدأ في جميع شؤون حياته، وفي مختلف المجالات، ويبرز ذلك بوضوح في المواسم، فهو يبشر بها للاستعداد والعمل، كما هو معلوم في استقبال رمضان المبارك، وأشهر الحج، والأعمال التي تعمل فيها، وغيرها.

كل هذا يستوحى منه النظر بعين البصيرة، وبالتخطيط للمستقبل باستثماره، وفيما يعود بالخير والفائدة على النفس والأسرة والمجتمع.

فكل ذلك يدل على أن صناعة المستقبل مبدأ شرعي، وضرورة حياتية وحاجة حتمية لجودة المنتج، وحسن نوعيته، وعمق أثره.

والسؤال الذي يرد الآن هل صناعة المستقبل دنيوياً أو أخروياً؟ وهل هو خاص للفرد فحسب أو للمؤسسات والمجتمع بعامة؟

ولعل من بدهي القول أن النظر لكل مستقبل دنيوياً أو أخروياً، ولكن نظرة الإسلام، وما علمتنا السنة النبوية أن لا فصل بينهما فمتى ما حاول المرء صناعة مستقبله الدنيوي المشروع فيندرج تحته مايصنعه لآخرته لأن الدنيا مزرعة للآخرة فهما لاينفصلان، ولذلك يردان جميعاً في القرآن سواء في العمل والنتيجة، وهكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )، فلينظر القارئ الكريم في هذه الآية : -

§       الجزاء الدنيوي : الحياة الطيبة.

§       الجزاء الأخروي : الجزاء بأحسن ما كان من العمل.

فالربط بينهما واضح.

كما أن النظر إلى الآخرة: النظر المجرد لايمنع من الاستمتاع بالدنيا يقول تعالى في قصة قارون : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )، فربط سبحانه بين:-

§       الهدف في الآخرة – وهو الأصل .

§       المتعة في الدنيا.

§       هذان الهدفان ثمرة للإحسان في الدين – وعدم الفساد والإفساد في الأرض.

*   *   *

هكذا يصنع المستقبل ويصاغ.

وهكذا الخط العريض لكل مسلم يريد صناعة المستقبل، ويبقى أن يصوغ كل مسلم برامجه في ضوء هذا الخط العريض وهكذا كان عليه الصلاة والسلام مع نفسه، وأهله، وأسرته متمثلاً قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ).

وبهذه الصناعة يقي المرء نفسه وأسرته من النار وهي من أعظم صيغ صناعة المستقبل.

*   *   *

- هذه الصناعة كما هي للفرد نفسه؛ وهذا واضح.

- وهي من الفرد المسؤول لأسرته كما في الآية السابقة.

- وهي للمؤسسة، والجمعية، والمجتمع، والدولة، لا فصل بينها فيجب أن تسير وفق خطوط متوازية تنطلق من منطلق واحد، لتصل إلى نتيجة واحدة تنعكس على الجميع.

وبالمثال يتضح المقال: فالأب يعمل بخطوط متوازية فهو في الوظيفة يؤدي وظيفته الواجبة في المجتمع، حريص على إتقانها – فهو هنا عمل لدنياه، وهو مأجور في آخرته.

وفي الوقت نفسه يعمل موجهاً ومربياً لأسرته، ويجد ويجتهد في كسب العيش لهم، ومن ثم تربيتهم ليكونوا عناصر صالحة. فهو عمل لسعادته وسعادتهم في الدنيا، وهنا يضاعف له الأجر في آخرته كما استمتع بدنياه أيضاً وهو عامل لنفسه في عبادته مع ربه يقوم بالتكاليف الواجبة عليه، مؤدياً لها بإتقان، فأسعد نفسه بها وهي الرصيد العظيم له في الآخرة.

وهكذا في كل ما يقوم به.

ومثل هذا يمارس صناعة المستقبل إذا ما جعل تلك المهمات يكمل بعضها بعضاً، ويخدم بعضها بعضاً غير منفصلة في أجزاء متناثرة.

فإذا ما قام بهذه الأعمال مخططاً لها، وفق رؤية متكاملة مترابطة فقد أجاد صناعة مستقبله.

*   *   *

ولعل من المفيد في ختام هذه المقالة القصيرة أن تكون إجابة على سؤال مهم: وهو: ما الأدوات المعينة للنظر في المستقبل؟

ويمكن تلخيصها بما يلي، والإشارة تغنى عن العبارة.

§   مفتاحها : معرفة الإنسان لنفسه، ولمهمته في هذه الحياة، فكثير من المضيعين لمستقبلهم لم يعرفوا أنفسهم حق المعرفة، والله جل وعلا يقول: (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ).

§   ويندرج تحت ذلك معرفته لقدراته، فالله سبحانه أودع كل إنسان قدرات تختلف عن الآخر، وهي كامنة في النفس، والحصيف الذي يصنع مستقبله هو الذي يعرف قدراته ويستكشفها ويفعلها. قال تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ).

§   معرفة إمكاناته المتاحة – فلا يمكن صناعة المستقبل من خلال جموح خيال، أو مطالب عسيرة أو مستحيلة، ولكن كما قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) وكما قال عليه الصلاة والسلام : ( مه: عليكم من العمل ما تطيقون، فالله - سبحانه -  لا يمل حتى تملوا).

§   الانطلاق من تفعيل العمل الحياتي، سواء كان وظيفة أو تجارة أو غيرها. وعدم فصلها عن حياته، وكثير من الذين سئموا من أعمالهم لأنهم فصلوها عن حياتهم فتجزأت الحياة.

§   دراسة التجارب الأخرى – كل بحسبه – والاستفادة من الآخرين فلا يولد الإنسان متعلماً بل يستعرض تلك التجارب لينطلق من ما وقف عليه  الآخرون فهو هنا استثمر جهودهم وخبرتهم فيصنع مستقبله بشيء من الوضوح والخبرة التراكمية.

§   دراسة التاريخ ففيه العبر والدروس، وقد جاء في القرآن الكريم كثير من الآيات تتضمن التوجيه لأخذ العبرة من الأمم السابقة لكي لا يقع المسلمون فيما وقعت فيه تلك الأمم، وكذلك داخل هذه الأمة تدرجت العلوم والمعارف وتراكمت الخبرات والتجارب فالحصيف من يدرسها ليستفيد منها ليصنع مستقبلاً مبهراً.

§   دراسة حياة العظماء الذين أسهموا في توجيه الآخرين وإفادتهم ومعرفة السبل التي سلكوها فالحكمة ضالة المؤمن أنىّ وجدها فهو أحق بها.

§   وأخيراً: التأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فما من مبتغى يبتغيه المسلم إلا وجده، وقد وجه ربنا جل وعلا إلى ذلك: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ )

*   *   *

إن مريد صناعة المستقبل إذا جمع هذه العوامل فسيصل إلى النتيجة الواضحة لمستقبل مشرق، ويرضى عنه خالقه ثم يرضى نفسه، وأسرته ومجتمعه.

ولعل من المناسب أن أشير هنا إلى بعض مواطن العلل والخلل في أساليب حياتنا تجاه النظر إلى المستقبل وصناعته بحق ومن ذلك:

1- عدم النظر إلى المستقبل أصلاً، ويندرج تحت ذلك عدم وجود هدف يسعى له الفرد أو المؤسسة، وهذا في عمق الخطأ إذ ينبني على ذلك عدد من السلبيات من أهمها: ضياع حياته، وملله، وسأمه، وضيقه، وتأخره .. الخ. وهذه من آفات العصر التي تحتاج إلى استفاضة في الحديث عنها.

2- النظر للمستقبل بكليته وتضخيمه حتى يصل إلى نوع من الخيال يبعد تحقيقه، وهذا عند من يتقعر ويبالغ ويبعد عن الواقعية في حساباته، ومن شأن هذا عدم تحقيق أهدافه الخيالية، وإصابته بردود أفعال متتالية.

3- الفوضوية في الحياة وعدم ترتيبها، وقد علمنا الإسلام أهمية الوقت وترتيبه من خلال العبادات، فالفوضوية من الآفات الكبيرة التي تقضي على كل مشروع طموح، أو آمال واقعية، ومن ثمّ تضعف النتائج الإيجابية.

4- عدم الاستفادة من النقاط الإيجابية عند الإنسان نفسه ومن ذلك القدرات التي منحه الله تعالى إياها، فيضيعها سدى، ولم يعلم هذا الإنسان كم أودع الله تعالى فيه من قدرة يمكن أن يفيد نفسه وغيره فيها لكن فرّط فيها وأهدرها.

5- عدم الاستفادة من الإمكانات المتاحة وبخاصة في مثل هذه البلاد التي حباها الله تعالى بكثير من الإمكانات ومنها وجود دور العلم والمعرفة، وعدد كبير من العلماء، والتمسك بالمعتقدات والقيم، وغيرها وهذا من مواضع الخلل الكبيرة.

*   *   *

وبناءً على تلك الإشارات السابقة على المسلم الجاد، ذكراً كان أو أنثى أن يبدأ خطوته الأولى، ويعد العدة الشاملة والإعداد العلمي، والتخطيطي، من غير تكلف ولا شطط، ومثله كل مؤسسة، وسيجد الجميع بإذن الله مستقبلاً يفوح بالفأل، والنتائج الإيجابية – في الدنيا والآخرة وإلى مستقبل باسم لكل محاول لصناعته صناعة إيجابية.

 

حقق الله الآمال وسدد الخطى

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،

 

 

 



بحث عن بحث