فقه الاجتماع، وفقه الخلاف (1)

يكثر الحديث بين فينة وأخرى – كتابة ولقاءات إعلامية وندوات وحوارات – حول الخلاف والتعامل معه، ويزداد الحديث عن وجود حدث أو مناسبة شرعية يختلف الناس حولها، وتتكاثر أسئلة العامة، وتتنوع مواقف طلاب العلم في الحكم عليها والتعامل معها.

وقد كتب العلماء قديماً وحديثاً في الخلاف في القضايا الشرعية، فهناك من كَتَب في الخلاف عند المفسرين، وأخرون كتبوا في الخلاف عند المحدثين، وعند الفقهاء، وعند علماء العقيدة والمذاهب وغيرها.

 

*   *   *

 

وفي هذا الوقت وبالتحديد بعد الأزمات والفتن التي تلاحقت منذ دخول القرن الخامس عشر الهجري علت نبرة الحديث عن الخلاف حتى كأنك تسمع وتقرأ للجميع- وأقصد من يتعاطى القلم والكلام – ولا تعلم مَنْ المخاطب؟ لأن الجميع يتفق في الجملة على عدة قضايا أساسية في الموضوع نفسه؟ ذلك بأن الخلاف سنة بشرية كونية والناس متفاوتون في عقولهم وفي نظراتهم للاشياء، وتعاملهم مع الأمور الحياتية. ومما يتفقون عليه: وجود الخلاف في بعض القضايا الشرعية واختلاف أهل العلم فيها قديماً وحديثاً، وأن المخالف معذور ما دام أنه يعتمد على دليل، ومن المتفق عليه: ضرورة التأدب بآداب الخلاف من صدق النية، وحسن الطن، وعدم كيل الاتهامات، واحترام المخالف، واحترام رأيه، وحمله على المحامل الحسنة، وعدم فرض الرأي، وأن أهم الطرق لحل الخلاف هو الحوار، والحوار بآدابه.

        كل هذه وغيرها من المتفق عليه فلا تكاد تقرأ لكاتب أو تسمع لآخر من يخالف هذا نظرياً مطلقاً فلا أحد يرى خبث الطوية، وسوء الظن، والتدليس، والقول بالباطل... وأمثالها آداباً للتعامل مع الخلاف، أو في الحوار.

 

*   *   *

 

بيد أن محل التأمل والنظر والمراجعة – في نظري أمران أساسيان:-

أحاول أن أفصّّل فيها بعض التفصيل ما يناسب المقال:-

الأول : طرق الموضوع مع إغفال أو اختصار عناصر مهمة كلية وجزئية فيه، ومن ثمّ تؤثر على الخلاصات والنتائج وقد يكون لها بعض الأثار السلبية عند تناول الموضوع.

الثاني: في تناول الطرائق العملية عند خوض معترك الخلاف – كتابة وحديثاً – مما يخلف – بعض الأثار السلبية.

        ولعلي قبل الدخول في هذين الأمرين أستبيح القارئ عذراً أن أكون صريحاً – بعض الشئ – ليتجلى ما أردت من هذا المقال، ولعله يسهم في البناء الايجابي في هذه المسألة كثيرة الدوائر والحلقات التى قد تنفك في بعض الاحوال.

 

*   *   *

 

        وأعود لما أردت؛ وأبدأ بالأمر الأول مما يحتاج إلى مراجعة وتأمل:

وهو: طرق الموضوع والحديث عنه مع إغفال عناصر مهمة، وذلك إما لظن الكاتب أو المتحدث أنها معلومة سلفاً، أو أنها من المسلمات التى لا تجهل، أو أنها ليست محل إشكال، أو رغبة في الاختصار وعدم التطويل، أو أن تقديره أنها خارج البحث أو غير ذلك.

ومن هنا أسجَّل ما أراه من هذه العناصر أو النقاط مع غيرها في الوقفات الأتية:-

الوقفة الأولى: أن الأصل في هذا الدين أنه يدعو للاجتماع وعدم التفرق، بل جَعَل هذا الاجتماع مقصداً من المقاصد الشرعية، يؤثر في الأحكام الشرعية، جاء التأكيد على هذا الأصل في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وفي المعقول والنظر. قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)، وقال عليه الصلاة والسلام – فيما رواه مسلم وغيره: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوا الله ولا تشركو به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

        ولا شك أن العقول السليمة تدرك أهمية الاجتماع والاتفاق، والوحدة، والتكاتف، والتعاون... وكل ما يدل على ذلك أو يؤدي إليه.

        ومن هنا جاء التأكيد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على النهي عن الفرقة والنزاع والشقاق، قال سبحانه: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وقال سبحانه: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً).

 

*   *   *

 

        إن مقتضى ما سبق يؤكد على هذا الأصل العظيم، والمقصد الأسمى ومن هنا عُظّم أمر: (الاجماع) في الشريعة وجُعل مصدراً من مصادر التشريع، بل ومصدر قطعي.

وبناءً على ذلك فالتفرق والاختلاف الذي يخرق هذا الأصل مذموم.

 

*   *   *

 

        وبناءً على ذلك أيضاً من الخير تكثيف البحث عن عوامل الاجتماع، ومادة الاجتماع، والحرص عليها، والتواصي عليها والتأكيد على مفرداتها، ومقرراتها.

كل كذلك:

1-  للتعبد لله عز وجل بهذا المأمور به وطلب المثوبة عليه.

2-  لتبقى آثاره الايجابية من قوة التماسك والعزة وسلامة القلوب.

3- ليكون البحث بعد ذلك عن الخلاف في موقفه الصحيح الذي يؤثر إيجابياً، ويكون عامل بناء وتقدم، وليس عامل تفرق وشقاق فيخلف آثار سلبية أقلها شنآن القلوب، والغمز واللمز.

الوقفة الثانية: هنا يرد السؤال، وهو سؤال جوهري وفي المسار نفسه هل من المعقول أن يجتمع على كل شئ؟ وما الذي يجتمع عليه؟ وبلاشك أن هذا سؤال يحتاج إلى ندوات ومؤتمرات ولقاءات وحورات أهم من لقاءات الخلاف، ليتضح لنا عمق الشريعة وحرصها على أن أهم منطلقات الخلاف هو التأكيد على ما يجتمع عليه والانطلاق منه.

 

*   *   *

 

ومن المسلمات التى يجتمع عليها في هذه الحياة بين المسلمين – وبدون تفصيل:

1-   مراتب الدين الثلاثة: الاسلام، والايمان، والاحسان.

2-   أركان الاسلام بما جاءت مفصلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

3-   أركان الايمان كذلك بما جاءت مفصلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

4-   مصادر الشريعة المجمع عليها: الكتاب والسنة والاجماع والقياس.

5-   قواعد الشريعة المتفق عليها ومنها القواعد الخمس الكبرى.

6-   المقاصد الشريعة الكبرى ومنها: حفظ الضرورات الخمس الدين والعقل والعرض والمال والنسب.

7-   العقل مصدر للمعرفة  وبه فضل الانسان لكن ليس حاكما على الدين، فالدين مبني على التلقى والاستسلام.

8-   العبادة الصحيحة مبنية على أسس ثلاثة:-

 ‌أ-     الإيمان بالله.

‌ب-    الإخلاص له.

 ‌ج-   الاهتداء بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

9-    الدين مبنى على التلقى من الوحي، والاستسلام لله سبحانه وعدم تحكيم الأهواء والمزاج والعقول المجردة.

10-  العبادات المباشرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والدعاء والاستغاثة والاستغفار وغيرها توفيقية، لا يعمل بأي منها إلا مبنياً على دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

11-  الأصل في المعاملات المالية والأطعمة والأشربة الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، فبينت الشريعة قواعد ذلك.

12-      الأصل في الابضاع التحريم.

13-  من مقاصد الدين: التعامل مع الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم- بالخلق الكريم، فكل خلق كريم أمر به الشرع، وكل ما يضاده نهى عن الشرع.

14-      الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من مقاصد الدين العظمى.

15-  الاجتماع على ولي الأمر وعدم الخروج عليه، وطاعته بالمعروف من أهم ركائز سلامة المجتمع وأمنه وتقدمه ورقيه.

16-  العلماء الشرعيون هم المبلغون عما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم العارفون بهما والشارحون لما جاء فيها.

 

*   *   *

 

 

       هذا غيض من فيض وغيرها – ولله الحمد – كثير من مسلمات العقيدة، ومسلمات العبادة ومسلمات التشريع والاخلاق، ومثال ذلك كثير من أحكام الصلاة، من شروط وأركان بل ومن واجبات فسجود السهو مثلاً لا يخالف فيه أحد، إنما الخلاف في وضعه قبل السلام أو بعده وداعيه من الزيادة والنقص والشك، وقل مثل ذلك في أحكام الزكاة، والصيام، والحج والعمرة، وقل مثل ذلك في القيم والأخلاق وتفاصيلها.

       أقول: هذه المسلمات التي تغيب عن كثير من المسلمين مثقفين ومتعلمين وغير متعلمين وقد يجهلون شيئاً من التفاصيل فيها فلكل مقام مقال - بحاجة إلى استظهار وجلاء وبيان عند الحديث عن الخلاف.

       ولإجلاء الأمر أمثل بمثال يتطرق إليه بعض المتحدثين في مسائل الخلاف عند الكلام عن أحكام الصلاة، فيتحدثون عن كفر تارك الصلاة ، ثم يجره الحديث بقصد أو بغير قصد إلى القفز على هذه المسألة متحمساً لرأي على آخر ومن ثم قد يفهم من ما لا يراد فهمه.

       والذي أدعو إليه – وبخاصة في الحديث مع المجتمع بعامة – قبل الولوج في هذه المسألة وتفصيلها وذكر الخلاف: أن يمهد بالمجمع عليه، والذي يجتمع عليه الجميع ومن ذلك:-

1-  ذكر أهمية الصلاة، وخطورة تركها.

2-  بيان الإجماع فيمن تركها جاحداً لوجوبها.

3-  بيان محل الخلاف، وسوقه مع أدلته الشرعية ثم الترجيح من بيان سببه.

4-  بيان ما يترتب على الخلاف من آثار عملية.

       هنا تعطى المسألة حقها ولا أعتقد لمن يسمع ذلك يبقى في نفسه أمر يسّول له التهاون بالصلاة. والمهم: وُضع الخلاف في موضعه الصحيح فأدُّى ذكر المجمع عليه أثاره الايجابية في اعتقاد المسلم وعمله.

 

*   *   *

 

       وبناء عليه يدرك القارئ أو المستمع إلى أن مساحة المجمع عليه والواضح، كبيرة وواسعة، لا أن يقفز ذهنه إلى أن ديننا دين الخلاف فيقع في تردد وتشكك في تعبده لله عز وجل كما يسمع من كثير من العامة في هذا الوقت.

 

*   *   *

 

الوقفة الثالثة: خلق الله سبحانه وتعالى الناس متفاوتين في خلقهم، ومداركهم، وعقولهم، وطرائق معيشتهم، ونظرتهم إلى الأشياء وقدراتهم، ومواهبهم، وسعيهم في هذه الحياة، وأهدافهم الدنيوية.

ومن حكمته جل وعلا أنه لم يضيق على الناس في هذا التفاوت في أي أمر من الأمور، بل جعلهم ينطلقون في هذه الحياة وشعبها لكن وفق ضوابط ومعالم، يجب ألا يخرجوا عنها فيختل نظام الكون ولذا جعل سبحانه ترابطاً بين جزئيات من الكون وبين عمل الإنسان، وتأكد هذا المعنى في كتاب الله تعالى في مثل قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ)، والآيات في هذا المعنى كثييره، بل أبعد من هذا جُعلت المعيشة الطيبة، والنماء والازدهار، وعمارة الكون بما يصلحه هدفاً من أهداف وجود الانسان في هذه الحياة، قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )، وبناءً على ذلك أُمر الإنسان أن يعمل بمقتضى ما يُصلح الكون ويعمره كما في الآية السابقة، وهذه العمارة يمكن أن تزدهر وتنمو مع تلك الاختلافات بين البشر، كل يسهم بحسب ما منحه الله جل وعلا من القدرات والفهوم والإمكانات مادام أنه يعمل وفق المعالم التى رسمت له.

 

*   *   *

 

ومن أهم هذه المعالم:

1-   التعبد لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.

2-   العمل وفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3-   ألا يكون العمل متعارضاً مع خلق الله جل وعلا في خلقه للكون كأن يسعى الإنسان إلى إفساد شيء من الكون.

4-  أن يكون الهدف الأكبر هو الآخرة، والهدف الأقرب هو عمارة الدنيا، قال سبحانه في فصة قارون: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

 

*   *   *

 

       وهذا كله لا غبار عليه وأعتقد أنه من مجالات الاتفاق على الأقل بين المسلمين، ولكنها من المقدمات المهمة عند ما تدرس مسائل الخلاف – أي خلاف كان –.

إذا عُلِم هذا ندرك الخلط بين مقولتين:

1-   أن  بعض علمائناً لا يجعلون مساحة للرأي الأخر، ويتعاملون بالرأي الواحد، ويقصون الرأي الأخر، معلنين رفض تعددية الفكر... الخ مما يستعمل في فهم الخطاب الديني لديهم كما يرون.

2-   المقولة الثانية: ما يفهمه البعض أن أهل العلم يطالبون بأن لا يتحدث أحد مطلقاً حتى ولو كان في القضايا الحياتية والمعاشية.

       ولاشك أن تلك المقولتين من معضلات هذا العصر لمن لم يكن له حظ من العلم والثقافة، مع التأمل والنظر وعدم العجلة.

والذي يظهر لي أن الإشكال كما أشرت هو في الخلط بين تلك المقولتين، وعدم تحرير محل النزاع.

       والذي جرّ إلى هذا الخلط هو ما أشرت إليه في مقدمة هذه الوقفة من تضييق محل النظر – وجعل القضايا الحياتية كلها في سلّة واحدة.

       وفي حال استعمال تفكيك القضايا لوجدنا أن لا تعارض متضاد بين المقولتين إلا في حال ذاك الفهم الخاطئ للمسألة.

أما إذا فهمنا:-

1-    أن الله تعالى خلق الكون بتلك المساحة العريضة وجعل الإنسان يتأمل في هذا الكون وأمره بالتفكر وعلمنا أن مساحة الرأي في كثير من القضايا مساحة واسعة تتسع لكل تخصص أن يبحر فيها، وينفع نفسه، بل وينفع البشرية كلها، وفي حال استخدام هذا الأمر سنجد أن أي دولة أو مجتمع أو جنس أو فرد أو يتجه نحو البناء والتنمية، وعمارة الكون. وإسعاد النفس والمجتمع.

وهذا لا غبار عليه فكل فرد الجميع أن يدلي كل بدلوه، ولا أحد يستطيع أن يقصيه، ولا أن يرفض رأيه إلا بحجة.

ولا أبالغ إذا قلت هذا من عظمة هذا الدين، ومن سماحته، ومن عوامل استمراره.

2-    إن من فضل الله جل وعلا أن تَعَبّده في هذه الحياة وفق عبادة محكومة بأصول وتشريعات، لم يرضى سبحانه للبشر أن يستنبطوها بل أنزل فيها كتباً، وأرسل رسلاً ليبلغوها إلى الناس.

وهذه الأمة أرسل إليها محمداً صلى الله عليه وسلم، وأوحى إليه عن طريق جبريل عليه السلام بهذا الدين، ولم يتوفه سبحانه إلا بعد أن أتم الدين وأكمله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فإذا لا يحق لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو نبى الله ورسوله أن يبلغ إلا ما أوحاه الله إليه، ومن ثم لا يحق لغيره أن يخترع في دينه، ولا يجتهد فيه إلا بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم. ولهذا عظمت مكانة أهل العلم وجعلوا ورثة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

*   *   *

 

       وبناء على ما سبق: فمن كانت لديه الأهلية العلمية بما ورثه عن محمد صلى الله عليه وسلم وتعلمه فهو الذي يقول بالجواز وعدم الجواز، والحل والحرمة ويخالف غيره مما يجوز الاجتهاد فيه أما ما لم يكن كذلك فمن الخير له ولغيره ألا يخوض فيما يجهله بدعوي أن الدين للجميع، ولا يحجر على رأي أحد. ونحو ذلك من المقولات التى تقرأ وتسمع، وبعد ذلك يقول: لنختلف، فمثل هذا جانب الصواب وحاد عن الطريق، ولتقريب المسألة أكثر: الجميع يتفق أنه لا يحق أن يطبب الناس من ليس بطبيب، ولا أن يتكلم بأي كلام ويزعم أن هذا شعر، ولا أن يقنن في الاقتصاد وهو لا يعلم منه إلا شيئاً يسيراً وغير ذلك.

       فالشريعة بتفصيلاتها من باب أولى أن لا يتحدث عنها إلا من كان مختصاً بها عالماً بقضاياها، وهو الذي يسمح له في المخالفة فيما يجوز فيه الاجتهاد.

ومن هنا تأتي المقولة المبالغ فيها: ان بعض أهل العلم يقصون الأخر، لا يرون إلا الرأي الواحد..... الخ.

أعتقد لو تدبر القائل المسألة في ضوء ما ذكر لما حصل له هذا الخلط بين المقولتين.

 

*   *   *

 

ونخرج من هذه الوقفة بـ:

1-     أن مجالات الحياة واسعة لاستخدام الفكر والتأمل للبناء والتمنية ولكل من تأهل في مجال أن يبدع فيه ولو خالفه غيره.

2-     أن الدين تلقى بالوحي، ولا يقول في الأحكام الشريعة إلا من كان عالماً بها وهو الذي يحق له المخالفه في المسائل الاجتهادية بالدليل.

3-     أن من العجلة المذمومة تبادل الاتهامات دون تحرير محل الكلام في المسائل.

4-    من الخير أن يفرق بين القضايا العبادية التي بنيت على التوقيف والدليل، وبين القضايا التعاملية التي بنيت على القواعد الشرعية وفتحت المساحة للتطبيقات العملية.

5-    من الخير – أيضاً – للأفراد والمجتمع الاتجاه للإبداع في المجال الذي يحسن فيه كل فرد.

6-    ومن الخلط والخطأ: الخلط بين القضايا، ومن ثمّ يتجه أغلب الكلام إلى تبادل التهم والغمز واللمز حتى بين أبناء العلم الواحد، أو البلد الواحد.

 

أستودعكم الله...

وللحديث بقية مع بقية الوقفات...

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،

 

 



بحث عن بحث