قال لي صاحبي

الحلقة (2)

 

قال لي صاحبي: لاشك أن ما ذكرته في مسامرتنا السابقة حق، فأكمل ما تريد التوصل إليه.

قلت: نعم لقد تشبعت الأقلام بين غال ومفرّط، ولعلي أركز الحديث معك فيما هو يختص بالسنة النبوية ومناهج التعامل معها.

وأقول: لقد تعاملت مع السنة النبوية أقلام فغلت تجاه النصوص النبوية حتى حجرتها في دائرة ضيقة ولم تعطها السعة الحقيقية التي جاءت به، مثال ذلك: نصوص الوعيد الذي توعد الله سبحانه وتعالى فيها العصاة بأنواع من العذاب مثل قوله علية الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم..) الحديث. فأخذوا النص على ظاهره، ولم يقارنوه بالنصوص الأخرى كنصوص الوعد فحكموا بالكفر على صاحب الكبيرة، وبهذا المنظار تعاملوا مع نصوص كثيرة، فاضطرب منهج الاستدلال لديهم.

 

قال لي صاحبي وما الأسباب التي أدت إلى هذه النظرة. وهي فيما يظهر لي نظره خطيرة من جهة الاستدلال، ومن جهة ما يترتب عليها من آثار علمية وفكرية، وأثار عملية.

 

قلت: أجل ولعنا نبدأ بما أشرت إليه من الآثار الخطيرة لهذا المنهج ومن أهمها:

 

1- الاضطراب في منهج الاستدلال بمعنى أن من يقول بهذا القول لن تتطرد معه قاعدة أصولية تجاه التعامل مع السنة النبوية، ومن ثم التناقض والاضطراب.

2- التخبط في الأحكام لأن منهج الاستدلال غير سليم فيعطي نتائج غير سليمة.

3- الشدة في تناول الأحكام العملية لأن هذا يعتبر هذا هو المخرج من الإشكالات التي تعترضه.

4- الجرأة في الحكم على الأشخاص كفرا وفسقا، وابتداعا وغيرها. لأن هذا نتيجة من نتائج طريقته في الاستدلال فمن أخذ بظاهر هذه النصوص دون عرضها على النصوص المقابلة لم يجد مسوغا ألا يحكم على هؤلاء الأشخاص بالكفر أو الفسق ونحو ذلك.

5- التعدي والجرأة - وبخاصة على أهل العلم المعتبرين - فيصمهم بالجهل، أو المجاملة مع الآخرين، أو أكثر من ذلك يبيع ذممهم في سبيل الدنيا، ويقع هؤلاء بهذه النتيجة لأن أول من يرونه يصطدم معهم هؤلاء العلماء الذين يبدون مخالفتهم في منهجهم، وهم الذين يستطيعون توضيح أخطائهم، وإبراز مخالفاتهم انطلاقا من هذا المنهج المضطرب.

6- وقد يصل الأمر إلى التضييق على الناس في عبادتهم وأحوالهم ومعاشهم لأنهم يعتبرونهم عصاه بعيدين عن منهج الله تعالى.

7- الخلط في المفاهيم الكبرى – وهذه من أعظم الآفات التي يقع فيها أصحاب هذا المنهج الخطير - مثل مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينقلون المفاهيم العظيمة من كونها مفاهيم واسعة إلى مفهوم ضيق ينحصر في الخروج على الوالي فيأخذون بمذهب الخوارج، ومن ذلك مفهوم الجهاد وغايته. فيحصر هذا المفهوم بأن الجهاد: القتال فحسب دون النظر إلى النصوص الأخرى التي توسع المفهوم إلى أن يكون شاملا لجهاد النفس وكفها عن المعاصي، وجهاد المنافقين بالحجة والبيان، وجهاد الشيطان بمدافعته عن الغواية، وجهاد الكفار بمقاتلتهم هو جزء من المفهوم وليس المفهوم كله.

وغير ذلك من الآثار الخطيرة، وواحد منها كاف لبيان ضرر هذا المنهج فضلا عن وجود هذه الآثار وغيرها كثير لكن المقام مقام إجمال لا تفصيل.

 

قال لي صاحبي: عجبا لهذا المنهج الغالي، ولكن يرد السؤال السابق ما الأسباب التي أدت إلى الوقوع في هذا المنهج الخطير الذي تنوعت آثاره وشملت الفرد والأسرة والمجتمع بل تعدت إلى انحراف مفاهيم في الدين نفسه؟.

 

قلت: هذا المنهج وجد قديما، ويظهر في المجتمعات المسلمة بين الحين والآخر، فليس ما تراه وتسمعه في هذا الزمن ببعيد عما جرى على مدار تاريخ الأمة المسلمة منذ ظهور هذا الدين. وبعثة النبي صلى الله عليهم وسلم إلى يومنا الحاضر، لكن من الخير العظيم أن يُتعرف على الأسباب لتكون المعالجة معالجة شمولية. تصحح ما وقع فيه هؤلاء، وما يلبس على غيرهم، وبخاصة أن العالم اليوم عالم منفتح، والمعلومة متداولة، وكما يقال: العالم كالقرية الواحدة، بل أصبح الآن أعظم.

 وإن من أهم الأسباب والتي يجب أن نصارح أنفسنا بها، ونصارح بعضنا، وتكون محل تأمل ونظر من طالب العلم المبتدئ، والمتوسط والداعية، والمسئول. والأب، والأم، والموجه وغيرهم، أقول من أهم هذه الأسباب ما يلي:

 

1- الجهل بدين الله تعالى حقيقة فهو أم الآفات، والجهل المراد به هنا: الجهل بمصادر التشريع، وأدلته، وطرائق الاستدلال، فيترتب على ذلك البعد عن المنهج الصحيح والوقوع في الاضطراب هو التناقض في الأحكام، والضيق في النظرة، والحنق في المخالفة.

2- ومن أهم الأسباب التلقي للعلم والفتوى من غير أهلها، والله جل وعلا قال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأشاد بالعلماء، وجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم ورثته، وما حادت الأمة عن هذا المنهج إلا ضلت وأضلت، والمنطلق هو مصدر التلقي، وفرقة الخوارج التي خرجت على عثمان وعلى علي رضي الله عنهما إنما انطلقت في ضلالاتها من الحيدة عن كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى المجاهيل الذين لم يعرفوا بعلمهم ولا تاريخهم.

3- ومن الأسباب أيضا النظر للقضايا بغير النظر الشرعي الدقيق ومن ذلك المصطلحات مثل: المعصية، التكفير، الضلال. الفسق، الابتداع، الولاء، البراءة، النفاق،.... تلك المصطلحات التي ضبطت شرعا، وهي مصطلحات وردت في القرآن والسنة، وهي في الوقت نفسه مصطلحات دقيقة تحتاج إلى دقة نظر وجمع للنصوص فمن أخذها من زاوية دون أخرى لم يستطع ضبطها، ومن ثم وقع في الضلالة فعلى سبيل المثال: الكفر، لو أخذ المسلم بهذا المصطلح على إطلاقه كما ورد في النصوص لكفّر كثيراً من المسلمين لكن لو جمع ما ورد في هذا المصطلح وجمع نظائره لخرج بنتيجة أخرى ولعرف أن الكفر أنواع وليس نوعاً واحداً وهكذا.

4- النظر إلى المسائل من خلال نص واحد دون النظر إلى مجموع النصوص التي يكمل بعضها بعضا، ولا يكتمل الحكم إلا بها، وهذا مبحث كبير في الأصول والمصطلح اسمه: التعارض والترجيح، وهو من أهم الأبواب التي يجب تعلمها، ومن يحكم على المسائل العلمية دون النظر إلى ذلك فقد ضل وأضل. وما حصل كثير من الشذوذات إلا وهذا من أهم أبابه.

5- ردود الأفعال وبخاصة تجاه النفس، فعندما يرتكب الإنسان بعض المعاصي ويقع في بعض الذنوب وينغمس فيها، ثم يمن الله عليه بالتوبة، يظنُّ أن لا يكفر هذا إلى الطرف الأخر، فينظر إلى الأمور بنظرة حادة تقوده إلى تضييق الأحكام على نفسه أو على الآخرين.

 

 

أحسب – يا صاحبي – أن هذه جملة من الأسباب التي أدت إلى الوقوع بهذا المنهج، وقد ضاق الوقت عن إكمال ما يتعلق بالمنهج المقابل، ولعله في لقاء آخر بأذن الله.

استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، ونلتقي على خير بإذن الله تعالى.

 

ولكم تحياتي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...



بحث عن بحث