محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور العقدية التي تحدد حقيقة الإيمان لدى الإنسان، فمن أهم مقتضيات هذا الإيمان واكتماله هو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أحمعين»(1).

كما يجب أن تعتلى هذه المحبة فوق كل المصالح والمتاع من الأموال والأزواج والبنين، لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(2).

ويؤكد عليه الصلاة والسلام هذا الأمر بقوله: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»(3).

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: «لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر»(4).

*     *      *

وتتجلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم في اتباعه والعمل بما جاء به من كتاب الله تعالى وسنته، كما يعلو هذا الحب في محبة شخصه عليه الصلاة والسلام من القلب والدفاع عنه بكل غال ونفيس، يقول تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(5).

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أول من حققوا هذا الحب على الأرض، والأحداث شاهدة على ذلك، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يحرسه من جميع الجهات أثناء الهجرة إلى المدينة، وذك أنس بن النضر رضي الله عنه يتلقى الطعنات والضربات في غزوة أحد حتى لا يصيبه أذى عليه الصلاة والسلام، وكذلك أم عمارة رضي الله عنها التي كانت تحمي النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الأطراف.

ولعل الموقف العظيم الذي سجله الصحابي الجليل  زيد بن الدثنة حين أُسر وقُدم ليُقتل، قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحبّ أن محمدًا عندنا الآن مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك! قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا كحبّ أصحاب محمد محمدًا(6).

وكيف لا يصل الحب إلى هذا المستوى وهو النبي الهادي الذي أرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو النبي الرحيم الذي أحبّ أصحابه وأمته وجعل من نفسه وليًا على كل فرد منهم بقوله: «أنا أولىَ بكل مؤمن من نفسه‏»‏‏.‏

ويقول الله تعالى عن هذا الحب والرحمة والحرص بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(7).

 

حبي  نبي  الـهدى ديني وإيمانـي
يسمو بنفسي على الدنيا وزخرفها
وتخشع  النفس  في  محراب  سيرته
هذي  الجوارح  بالتسبيح  لاهجةً
وبالصلاة  على  المختار  من مضر
هو  المقدم  في  نفسي على نفسي
وكيف  لاتعتلي  قلبي  مـحبتـه
هـو السراج المنير في الورى  أبدًا
هو  الأعزّ  الذي رقا السماء سنى
هو  الأعـزّ  ومن  يشنأ  أياديَـه
يا  أيها  النور  ما  لاينطفي أبـدًا
نفسي  الفداءُ  لعرض أنت صاحبه
 

 

يسري مع الدم يحيي نبض  شريانـي
وهو السلام على روحي ووجدانـي
فأذرفُ الدمعَ من شوق  وتـحنـان
تسبِّح الله  في  سـري  وإعـلانـي
ما دام للوُرق سجع  فوق  أغصـان
وأهل  بيتـي وأحبابـي  وخلانـي
ونـوره فـي العُـلا عـامٌّ  ببرهان
أعزُّ – وهو الهدى – من كل سلطان
وحـاز منزلـة لـم  يرقَـهـا دانِ
عاش الحياة ذليل  القـدر  والشـانِ
مهمـا العِـدا حاولوا  كفرًا  بإمعان
برئت من إفكهم من  كل  بـهتـانِ
 

*     *      *

ويمكن أن أذكر هنا أهم النقاط التي تنبني على حبه عليه الصلاة والسلام، حتى لا يكون حبنا له صلى الله عليه وسلم ادعاءً قوليًا، أو حركة عاطفية غير متوازنة. نحبه – كما أسلفت – أمر عقدي يجب أن يستقر في القلوب، ويترجم في الواقع إلى سلوك عملي تقوم به الجوارح:

1 – الإيمان به: بأنه رسول من عند الله تعالى إلى الناس كافة، جاء بدعوة التوحيد بشيرًا ونذيرًا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )(8).

2 – محبته صلى الله عليه وسلم محبة تفوق محبتنا لأنفسنا وآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وأزواجنا، وكل ما نملك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أحمعين»(9)، بحيث تكون هذه المحبة واقعًا عمليًا تظهر آثارها في السلوك والتعامل والأخلاق.

3 – طاعته فيما أمر واجتناب فيما نهى عنه وزجر: لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )(10). وقوله سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(11).

وطاعته عليه الصلاة والسلام من أهم دلالات محبته، وعدا ذلك يكون محض ادّعاء وكلام، وصدق الشاعر حين قال:

4 – الصلاة والسلام عليه: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(12).

والصلاة عليه واجبة أثناء الصلاة، وكذلك عند ذكره، ومندوبة في مواضع كثيرة في الصباح والمساء، وفي كل مجلس، وبعد الأذان ويستحب الإكثار منها يوم الجمعة، يقول عليه الصلاة والسلام: «من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشرً»(13). ويقول في حديث آخر: «البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ»(14).

5 – الرضا بحكمه صلى الله عليه وسلم وبشرعه والوقوف عند  حدود شريعته، وتحكيم سنته، والتحاكم إليها في جميع الأحوال لقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)(15). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(16).

6 – نشر سنته بين الناس، والذبّ عنها لقوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(17)، لا سيما في هذا العصر الذي يتعرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته لأشرس حملات التشويه والتزوير.

7 – محبة أصحابه: وهذه من مستلزمات حقوقه عليه الصلاة والسلام على أمته: وذلك بتوقيرهم والترضي عنهم، وعدم الإساءة إليهم أو الانتقاص من شأنهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحدًا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه»(18)وقوله عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»(19)، ثم إن الانتقاص من شأن الصحابة يعني الطعن في الدين والتشكيك فيه، لأن الصحابة هم الذين نشروا هذا الدين، ونقّلوه لنا بالصورة التي عليه الآن(20).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.

 

المشرف العام على الموقع

 

 


 

(1)      الصحيحان، واللفظ للبخاري في صحيحه، رقم 15، ص6.
(2)      سورة التوبة، الآية 24.
(3)      الصحيحان، واللفظ للبخاري في صحيحه، رقم 16، ص6.
(4)      رواه البخاري.
(5)      سورة آل عمران، الآيتان 31-32.
(6)      تاريخ الطبري 2/ 79.
(7)      سورة آل التوبة، الآية 128.
(8)      سورة إبراهيم، الآية 1.
(9)      الصحيحان، واللفظ للبخاري في صحيحه، رقم 15، ص6.
(10)      سورة الحجر، الآية 7.
(11)      سورة آل عمران، الآية 132.
(12)      سورة الأحزاب، الآية 56.
(13)      صحيح مسلم، رقم 912، ص173.
(14)      جامع الترمذي، رقم 3546، ص 808.
(15)      سورة النساء، الآية 65.
(16)      سورة النساء، الآية 59.
(17)      جامع الترمذي، رقم2658، ص603.
(18)      صحيح مسلم، رقم 6488، ص1113.
(19)      صحيح البخاري، رقم 2652، ص429.
(20)      لمزيد من البيان راجع كتابنا "دروس في الحقوق الواجبة على المسلم" ص39-49.



بحث عن بحث