الجامع الصحيح للإمام البخاري(3-20)

 

 

سابعا : ويزين علم الرجل هذا ورع وتقوى وزهد :فتنأى به كلها عن الغرور الذي يفسد بعض العلماء ، وعن الانشغال بالدنيا وتسخير العلم لمغرياتها والتكالب عليها ، فيتخلق بأخلاق لا تليق بما يحمله من العلم النبوي الشريف ، ومن مظاهر هذا في حياة الرجل :

1 ــ أنه كان لا يشتري لنفسه شيئا ولا يبيعه ، وإنما يوكل في هذا غيره ، لخوفه من أن ينزلق فيما يغضب الله تعالى ، ولو من غير قصد منه ، وللنأي بسمعه ولسانه عن السوق ، وما يحدث فيه من لغو وباطل ، يقول : " ما توليت شراء شيء قط ولا بيعه ، كنت آمر إنسانا فيشتري لي ، قيل له : ولم ؟ قال : لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط "(1)

2 ــ وكان له مال كثير ينفق منه سرا وجهرا على طلاب العلم وما يلزمه في طلب العلم من شراء الورق والرحلة ، يقول : كنت أستغل في كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب ، وما عند الله خير وأبقى (2) .

3 ــ خرج يوما إلى أحد شيوخه فتأخرت نفقته ، فجعل يتناول من خضروات الأرض ، ولا يسأل أحدا شيئا ، حتى وصل إليه المال (3) .

4 ــ كان يخشى الله أن يقدم إليه وقد أساء إلى أحد من عباده ، فأحسن معاملة الخلق وسار فيهم سيرة حسنة ، يقول : " لا يكون لي خصم يوم القيامة ، فقيل له : إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ ، يقولون فيه اغتياب الناس ، فقال : إنما روينا ذلك رواية ، ولم نقله من عند أنفسنا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بئس أخو العشيرة ) ، وقال : ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة حرام (4) .

5 ــ وأحسن صلته بالله تعالى فكان يدعوه فيستجيب له دعاءه ، يقول : " دعوت ربي مرتين فاستجاب لي ، فلن أحب أن أدعو بعد ، فلعله ينقص من حسناتي "(5) .

6 ــ وكان يرى أن ينبغي أن يزكيها بالصلاة والركوع لله رب العالمين ، فعسى الموت أن يفاجئها نفس المرء عبء عليه فلا تجد ما تقدمه يوم الحساب ، فكان يقول :

اغتنم في الفراغ فضل ركوع             فعسى أن يكون موتك بغتة

كم صحيح رأيت من غير سقم           ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

ونعى إليه أحد أحبابه ، فأنشد :

إن عشت تفجع بالأحبة كلهم             وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع (6)

7 ــ ولحرصه على نظافة لسانه من أن تدنسه كلمة قد لا تكون حقا أنه كان في نقده للرجال لا يطلق على الكذابين ألفاظا صريحة تدل على كذبهم ، وإنما يطلق عليهم ــ في غالب الأحيان ــ ما يبين حالهم بشيء من الأدب ، وبالعبارات المهذبة ، فكثيرا ما يقول في الرجل الذي يعرف كذبه : " فيه نظر " ــ " تركوه " ــ " سكتوا عنه " وأصرح ما قاله في رجل " منكر الحديث " .

قال ابن حجر : " وللبخاري في كلامه على الرجال توق زائد ، وتحر بليغ ، يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل "(7) .

ثامنا : وكان يعتز بعلمه ، ويرى أنه يجب على كل مستفيد أن يسعى إليه ، ويرد إليه كل طالب ورده ، حتى لو كان هذا سلطانا أو أميرا ، فهو لا يخشى في الله ودينه لومة لائم .

 بعث إليه أمير بخارى يطلب منه أن يحمل إليه كتابي الصحيح والتاريخ ليسمعهما منه ، فقال الإمام البخاري للرسول : قل له : إني لا أذل العلم ، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي ، أو في داري ، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم(8) .      

 


(1)  ــ هدي الساري ص 480 .

(2)  ــ هدي الساري ص480 .

(3)  ــ هدي الساري ص440 .

(4)  ــ هدي الساري ص 481 .

(5)  ــ هدي الساري ص 481 .

(6)  ــ هدي الساري ص 482 .

(7)  ــ هدي الساري ص81 .

(8)  ــ هدي الساري ص 494 .، وكتب السنة ، دراسة توثيقية ص 58 ــ 62 .

 

 



بحث عن بحث