اليوم الأغر

 

الخطبة الأولى

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.

أمَّا بعد: فيا عبادَ الله، ويا حجَّاج بيت الله، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله؛ فإنها خيرُ الزَّاد والسبيلُ الموصل إلى رضا ربِّ العباد، )وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(                 

                   ألا إن تقوى الله خير مغبة    

                                   ولا خير في طول الحياة وعيشها                                              

إخوةَ الإسلام، حجاج بيت الله الحرام، المقامُ والمناسبة يتوِّجهما الشكرُ والذكرَى والمحاسبة، فاشكروا الله جلَّ وعلا على عظيمِ نعمائه وجسيمِ آلائه، حيث تعيشونَ هذه الأجواءَ الروحانيةَ العبِقة والنفحاتِ الإيمانيةَ المباركة بعد أن مَنّ الله عليكم بالوقوفِ على صعيدِ عرفَة والمبيتِ بمزدلفةَ والإفاضةِ إلى منى والقيامِ بما تيسَّر من أعمالِ يوم النحر؛ من الرمي والذبح والحلقِ والطواف، فيا لها من مواقفَ عظيمة وأعمال جليلة، حيث تُسكَب العبرات وتتنزَّل الرحمات وتُقال العثرات وتحلُّ الخيرات والبركات وتمحَى الذنوب والسيئات، فاشكروا الله جلَّ وعلا أن بلَّغكم هذا اليومَ العظيم وهذا الموسم الكريم.

 

واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ يومَكم هذا يومٌ عظيمٌ مبارك، رفع الله قدرَه وأعلى ذكره، وسمّاه يومَ الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين حجاجًا ومقيمين، فيه ينتظم عِقد الحجيجِ على صعيد منى، وفي هذا اليومِ المبارك يتقرَّب المسلمون إلى ربهم بذبحِ ضحاياهم اتِّباعا لسنة الخليلَين إبراهيم ومحمّد عليهما الصلاة والسلام.

فهنيئا لكم يا حجاج بيت الله الحرام، ولتهنَئي ـ أمّةَ الإسلامِ ـ في هذا اليوم المتألِّق بحلول عيدِ الأضحى المبارك، أعادَه الله على أمَّةِ الإسلام بالخيرِ والنصرِ والعزِّ والتمكين، وكلّ عيدٍ وولاتنا وبلادنا وأمَّتنا وحجاج بيت الله بخيرٍ وتوفيق وسؤدَد وقبول، فافرَحوا وابتهِجوا بعيدكم، جعَله الله عيدًا سعيدًا وموسمًا رغيدا.

ويا بشرى لكم يا رعاكم الله؛ حيث تعيشون شرفَ الزمان والمكان، فيومكم هذا غُرّةٌ في جبين الزمان وابتسامةٌ في ثَغر الأوان، كيفَ وقد جمعَ الله لكم فيه عيدَين أليقَين في عيدٍ متلألئٍ وضّاء صلى الله عليه وسلم يا له من يومٍ تثمر فيه أغصان القلوب، وتتحاتُّ فيه أوراق الخطايا والذنوب، فيه يتذكَّر الحاجّ تأريخنا الإسلاميَّ المجيد على ثرى هذه الرُّبا والبطاح، ألا ما أشدَّ حاجة الأمّة اليوم وقد عمَّتها الفتنُ والمحنُ إلى أخذ الدروس والعبر من هذه المناسبة الإسلاميّة العظيمة؛ لتستعيد مجدها بين العالمين، وتعمَل بجدٍّ وإخلاص إلى تحرير مقدَّسات المسلمين والأقصَى الأسير من أيدِي الصَّهاينة الغاصِبين المحتلِّين صلى الله عليه وسلم في هذا اليومِ المبارك يتذكَّر المسلم عبَق الذكريات الخالدة وشذى الانتصارات الماجدة، ويسعَى في تحقيق الآمال الواعدة والأمانيِّ الصاعدة وهو يعيش هذه الأجواءَ العابقة.

 

ضيوفَ الرَّحمن، حُجاجَ بيت الله الحرام، أنتم اليومَ في يومِ النحرِ، اليوم العاشِر من شهر ذي الحجّة الحرام، في هذا اليوم الأغرّ يتوجَّه الحجاج إلى منى لرميِ جمرة العقبة بسبعِ حصيَات متعاقبات، فإذا فرَغ الحاجُّ من رمي جمرة العقبةِ ذبح هديَه إذا كان متمتِّعًا أو قارنا، فإن لم يجدِ الهدي صامَ عشرةَ أيام، ثم يحلِق الحاجّ رأسَه، وبذلك يتحلَّل التحلُّل الأول، فيباح له كلُّ شيء إلا النساء، ثم يتوجَّه الحاجّ إلى مكة ليطوفَ طواف الإفاضة، وهو ركنٌ من أركان الحجّ لا يتمّ الحجّ إلا به لقوله تعالى: )ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ( [الحج: 29]صلى الله عليه وسلم وبعدَ الطوافِ يسعَى بين الصّفا والمروةِ إن كان متمتِّعا، أمّا القارن والمفرِد فليس عليهما إلا سعيٌ واحد.

ويحصُل التحلّل الثاني بثلاثة أمور هي: رميُ جمرة العقبة والحلقُ أو التقصير وطواف الإفاضة، فإذا فعل الحاجّ هذه الأمورَ الثلاثة حلَّ له كلُّ شيء حرُم عليه بالإحرام حتى النّساء، وإن قدّم أو أخّر شيئًا منها فلا حرجَ إن شاء الله؛ لأنه صلى الله عتليه وسلم ما سئل يوم النحر عن شيءٍ قدّم و لا أخِّر إلا قال: ((افعَل ولا حرج)) خرجه الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم فيا له من منهج يُحتذَى ويُقتَفى في التيسير ورفعِ الحرَج على الحجّاج من أهل العلم والفتوى.

 

حجّاجَ بيت الله الحرام، في هذه الليلة اللألاء ليلةِ الحادِي عشرَ من ذي الحجة يجِب عليكم المبيتُ بمنى اتِّباعًا لسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم  ويومُ غدٍ إن شاء الله هو أول أيام التشريق المباركة التي قال الله عزّ وجلّ فيها: )وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ(

[البقرة: 203]، قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: (هي أيام التشريق)، وقال فيهما عليه الصلاة والسلام: ((أيامُ التَّشريْق أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله عزّ وجلّ)) خرجه مسلم وغيره.

فأكثروا ـ رحمكم الله ـ من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام المباركة امتثالا لأمرِ ربكم تبارك وتعالى، واستنانًا بسنة نبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم  واقتفاءً لأثرِ سلفِكم الصالح رحمهم الله، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون في هذه الأيام الفاضلة، وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قُبَّته بمنى، فيكبّر الناس بتكبيره، فترتجّ منى كلّها تكبيرًا

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.

وقد كان من هديِه صلى الله عليه وسلم  وهو القائل: ((خُذُوا عني مناسكَكم)) ـ في هذه الأيام المباركة رميُ الجمار الثلاث بعدَ الزوال مرتّبةً، الصغرَى ثم الوسطى ثم الكبرى وهي العقبة، كلّ واحدةٍ بسبع حصَيات متعاقبات، يكبِّر مع كل حصاة، والمبيت بمنى وهو واجِبٌ من واجبات الحج.

حضراتِ الحجاجِ الكرام الميامين، وإذا رمى الحاجّ وباتَ بمنى في اليومَين الأوَّلَين من أيام التشريق جاز له أن يتعجَّل ويخرُج من منى قبلَ غروبِ الشمس من اليومِ الثاني عشر، ومن تأخَّر وباتَ الليلةَ الثالثةَ ورمى الجمراتِ في اليوم الثالث فهو أفضلُ وأعظمُ أجرًا، يقول تعالى: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى( [البقرة: 203].

وينبغي للحجاجّ أن يلازموا ذكر الله وطاعتَه مدّة إقامتهم بمكة، فإذا أرَادوا العودةَ إلى بلادهم وجب عليهم الطوافُ بالبيت طوافَ الوداع لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنّه خفِّف عن المرأة الحائض صلى الله عليه وسلم متفق عليه   

     

وإن أخّرَ طوافَ الإفاضة وطافَه مع الوداع أجزَأه ذلك ولا حرَج إن شاء الله.

           

فيا معشر حجّاج بيت الله، أدّوا مناسكَكم على وفق سنّة نبيكم صلى الله عليه وسلم  وعامِلوا إخوانَكم الحجاجَ المعاملة الحسنة، تحلَّوا بحسْنِ السّجايا وكريمِ الشمائل ونُبل التعامل، واحذروا الإيذاءَ والتزاحم، وتحلَّوا بالرّفق والتسامح والتراحُم، وارعَوا لهذا المكان حرمتَه وقدسيَّته، وحافِظوا على أمنِه ونظامِه، واجتنبوا كل ما يعكِّر صفوَ هذه الشعيرة العظيمة.

ألا وإنَّ مما ينبغي التأكيدُ عليه عدمَ تساهلِ الحجاج ـ وفَّقهم الله ـ بشيءٍ من أعمال المناسك كالرمي والمبيت وغيرها، فقد يوكِّل بعضهم من غير ضَرورة، بل قد يسافِر بعضُهم إلى بلده ولا يبيتُ ولا يرمِي، وذلك خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتساهلٌ في تعظيم شعائر الله، )ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

فيا أيّها الحاجّ المبارك، تفقَّه في أحكام المناسك، واسأل أهلَ العلم عمّا يشكل عليك قبل وقوعِك في؛ ليكون حجُّك صحيحًا مقبولاً إن شاء الله.

وتحيةُ تقديرٍ وإعزازٍ وإجلالٍ ودعاءٌ لربّ العزّة والجلال أن يجزيَ القائمين على شأن الحجيج خير الجزاء، وأن يجعلَه في موازين أعمالهم الصالحة صلى الله عليه وسلم والشّكرُ موصول للجنودِ المخلصين العاملين في المنظومةِ المتكاملة لخدمة الحجيجِ على اختلاف تخصّصاتهم، لا سيما العاملون في اللجان العليا والمركزيّة والتوعويّة والأمنية والصّحّية وغيرها، لا حرَمَهم الله ثوابَ ما قدَّموا، ونسأل الله لنا ولهم الإخلاصَ والقبولَ.

وإننا لنحمد الله عزّ وجلّ على ما يسَّر وأعان ووفَّق لإنجاحِ موسم هذا العام، وتحقَّق نبلُ المسعى في استفادةِ الحجاج الميامين من اكتمالِ مشروعِ توسعَة وتطويرِ المسعَى، وكذا المشروعُ العملاق التأريخيّ المفخرَة المتمثِّل في اكتمال منشأة الجمَرات مما مكَّن للحجّاج رميَهم بكلِّ يُسر وسهولة، فلله الحمدُ والفضل والمنّة.

فاتقوا الله معاشر الحجيج، وروِّضوا أنفسَكم على الرفق والأناة والتيسير والحذَر من المشقّة والحرج والتعسير، فالحجّ مظهَر من مظاهرِ العبوديّة لله والاعتدالِ والوسطيّة في شريعة الله، ومعْلَم من معالم الأخوَّة والتراحُم والتسامُح والسلوكِ الحضاريّ بين عبادِ الله.

ولتحذروا ـ يا رعاكم الله ـ تلكَ الدعوات النشاز التي ترمي إلى تسييسِ هذه الفريضةِ الدينيّة والزجِّ بها في شعاراتٍ طائفيّة أو نعَراتٍ وعصبيّاتٍ إقليميّة تخالف منهجَها الشرعيّ وتعكِّر جوَّها الأمنيّ والإيمانيّ، فكلُّ مسلم حقّ ينأى بهذه الشعيرة عن كلِّ ما يصرفها عن حقيقتِها ومقاصدِها وأهدافِها الشرعيّة، وعن كل ما يصرِف عن وحدة الأمة وتوحيدِ كلمتِها واجتماعِ صفوفِها ويبثّ الفوضى ويخلّ بالأمن والاستقرار، كما يَدين ويستنكر ما تقوم به الفئاتُ الضالّة عن الحقّ ومن يقِف وراءَها من زعزعةِ الأمنِ والاستقرارِ واجتماع الكلِمَة واختراقِ حدودِ هذه البلادِ المباركة من المتسلِّلين الغادِرين، ويؤيِّد كلَّ التأييد ما تقوم به هذه البلاد المحروسة دولةُ التوحيد والسنّة والعقيدةِ والشريعةِ من مواقفَ حازمة لردعِ المتسلِّلين المعتدِين المفسدِين والحفاظِ على أراضيها واستقرارِ مجتمعها وصونِ أمنِها وأمانها، ويَدعو لرجال أمنِنا المجاهدين القائمين بخدمة الحجيج والمرابطين لحراسة حدودنا بالتوفيق والسداد والنصرِ والتمكين والتثبيتِ لأقدامهم والربطِ على قلوبهم، وأن يمكِّنَ لهم من رقابِ أعدائهم، ويسدِّد رميهم ورأيهم، ويردَّ غائبهم ومفقودَهم، وأن يتقبّلَ موتاهم شهداء، ويمنَّ على جرحاهم بعاجل شفاء، وأن يكبِت كيدَ الكائدين، ويردَّ عدوان المعتدين وبغيَ البغاة المفسدين، ويدرأَ في نحورهم، ويَكفيَ الأمّةَ من شرورهم، إنّه نعم المولى ونعم النصير، وهو حسبنا ونعمَ الوكيل.

كما نشكُر الله سبحانه على نعَمةِ الغيث والأمطار، ونشاطر إخوانَنا المتضرِّرين من السيول مصابهم، وأن يغفرَ لمواتهم ويعافيَ مبتلاهم ويشفيَ جرحاهم، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، اتَّقوا الله يا حجاج بيتِ الله، أتمّوا مناسككم كما أمركم بذلك ربكم ومولاكم فقال سبحانه: )وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ( [البقرة: 196]، واحتسبوا الأجرَ والمثوبة، واختِموا أعمالكم بالاستغفار والذكر والتوبة،(ثم أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ( [البقرة: 199، 200]، والله المسؤولُ أن يتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلَ حجَّكم مبرورًا وسعيكم مشكورًا وذنبكم مغفورا، إنه جواد كريم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، )وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ( [البقرة: 203].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورا.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله يمُنُّ على من يشاء من عباده بالقبول والتوفيق، أحمده تعالى وأشكره مَنَّ علينا بحلول عيد الأضحى وقربِ أيّام التشريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لأكملِ شريعةٍ وأقْوم طريق، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله ذو المحتدِ الشريف والنسَب العريق، فصلاةً وسلامًا وبركةً عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضلِ والتصديق، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان ما توافد الحجيج من كلّ فجًّ عميق، آمَّين البيت العتيق.

أما بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، اتَّقوا الله يا حجاج بيت الله، واشكروا الله عز وجل على سوابغ آلائه، والهَجوا بالثناءِ له على ترادُف نعمائه.

أحبَّتي الكرام، حجّاجَ بيت الله الحرام، لعلَّه لا يخفى على شريفِ علمكم بحمدِ الله أنَّ ما يظنّه بعض إخواننا الحجاج من أنَّ زيارةَ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم   بالمدينةِ من لوازمِ الحجِّ غيرُ صحيح، فليست الزيارةُ من لوازم الحج، ولا واجبا من واجباته، وما يُذكر من أحاديثَ في ذلك فهي رواياتٌ موضوعة لم تثبت عند المحدّثين الثقات كما ذكرَه المحقِّقون من أهل العلم رحمهم الله، ولكن أخي الزائر الكريم، يا من عزمتَ على زيارة مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم   هنيئا لك زيارة طيبةَ الطيبة مأرز الإيمان ومهاجَر سيّد الأنام الحبيب المجتبى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم

           بطيْبـةَ رسمٌ للرسـولِ ومعهـد منير     وقدْ تعفُـو الرسـومُ وتَهمَـد

         فبوركتِ يا مهْوَى الرسـولِ وبُورِكت     بلادٌ ثـوَى فيْها الحبيبُ المسدَّد

لكن عليك أن تعلم ـ يا رعاك الله ـ أنَّ من أراد الزيارةَ الميمونة فعليه أن يقصدَ المسجد النبوي الشريف في أي وقت للصلاة فيه، ومِن ثم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم   وصاحبَيه رضي الله عنهما، بأدب واحترام وخفض صوت، ولا يلزَم أن يصلِّيَ فيه أوقاتًا متعددة، ولا يجوز التمسُّح بالحجرة النبوية أو غيرها من الأماكن كما يفعله بعض العامة هداهم الله.           

         

فينبغي للحجّاج الميامين أن يلتزِموا في كلّ أفعالهم سنّةَ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم   ويحذروا كلَّ الحذر من الأمور المبتدَعَة والمحرمة في الشرع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم   ((من عمِل عملاً ليس عليْه أمرُنا فهو رد)) خرجه مسلم في صحيحه، وبذلك يتحقَّق لهم وعد الله بإعادتهم من ذنبوهم كيوم ولَدتهم أمهاتهم، وما ذلك على الله بعزيز.

فاتَّقوا الله عباد الله، اتقوا الله يا حجاج بيت الله، افتَحوا صفحةَ المحاسبةِ والمراجعَة والتقويمِ لأعمالكم، اعلَموا أنَّ هذه المناسبَات الإيمانية العظيمة ليست تغيُّرا مؤقَّتا في حياة الناس، بل هي تغيّر شامل في جميع مناحي الحياة، بل ورسالة عالمية للعالم أجمَع تعكِس الصورةَ المشرِقة للإسلام وأهلِه في الاعتدال والتسامُح والوسطيّة، فيعود الحاجّ أحسنَ مما كان عليه قبلَ الحج، وتلك أمارَة برِّ الحج وقبوله التي يسعَى إليها الحجّاج الكرام ويرومونها، فاستقيموا ـ رحمكم الله ـ على الأعمال الصالحة، واستمرّوا عليها مدة حياتكم كما قال سبحانه: )وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( [الحجر: 99].

           ربَّـاهُ كفّارتي عنْ كـلِّ معصيَـة     أنّي أتيت ومِلء النفس إيمـان

           فاغفرْ وسامحْ وتُبْ ففـي كبِدي     الإثم يصرخ والإحساس يقظان

وختاما، يا حجَّاج بيت الله وأنتم عمّا قريب تودِّعون البيت الحرام نستودِع الله دينكم وأمانتَكم وخواتيم أعمالكم، زوَّدكم الله التقوَى وغفَر ذنوبكم وأعادَكم إلى بلادِكم سالمين غانمين مأجورِين غيرَ مأزورين، ومَنَّ علينا وعليكم بالقبول والتوفيق بمنِّه وكرمه.

هذا، وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد البشر ذي المجد الأغرّ والوجه الأنور والجبين الأزهر والمقام الأظهَر والفضلِ الأطهَر الشافع المشفَّع في المحشر، فقد ندبكم لذلك المولى تبارك وتعالى وأمَر في أفضل القيل وأصدَق الخبر ومحكَم الآيات والسوَر، فقال سبحانه في القول الكريم المستطَر: (إن اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

يا مَحْفَلا يعلو على هامِ الذُّرا شرفا     فمنْ يرقـى رقيَّك يا ترى؟!

صلّـى الإلـه علـى النبيِّ محمّد     صلُّوا عليه وآلهِ خيْر الورَى

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...

 



بحث عن بحث