الوقفة الحادية عشرة : أحكام النيابة في الحج

 

 

سبق معنا أن الحج إلى بيت الله الحرام واجب في العمر مرة على المسلم المكلف المستطيع قال سبحانه وتعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}(1).

وقد ذكر العلماء أن الاستطاعة في حق الجميع ملك زاد يحتاجه في سفره ذهاباً وإياباً من مأكول ومشروب وكسوة وملك وعائه ولما لابد منه أو ملك أجرة تمكنه من الركوب ذهاباً وإياباً بمعنى أنه يستطيع الحج مادياً وبدنياً, وعنده ما يكفي أهله في حال غيبته, وفائضاً عن ديونه وحقوق الآخرين عليه, وكذا حاجته التي يحتاج إليها لما رواه أحمد عن الحسن لما نزلت هذه الآية: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}, قال رجل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) رواه البيهقي (2).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الزاد والراحلة يعني) قوله: {من استطاع إليه سبيلا} رواه ابن ماجة (3).

فمن توفرت لديه الاستطاعة يجب عليه المبادرة بالحج, ولا شك أن هذا التشريع رحمة من الله سبحانه وتعالى بعباده إذ لو كلفهم بالحج كل عام لم يستطيعوا كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس: كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال في كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا, الحج مرة فمن زاد تطوع) (4), رواه أحمد والنسائي والدرامي.

فلله الحمد والمنة على هذا التيسير العظيم, وعلى هذه الرحمة والرأفة بهذه الأمة.

ثم ليعلم المسلم: أن من عجز عن الحج لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لكونه ثقيلاً لا يستطيع الركوب إلا بمشقة شديدة أو لكونه ضعيف الجسم جداً وما شابه ذلك لزمه أن يقيم نائباً يؤدي عنه هذه الفريضة لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله: إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم), متفق عليه (5).

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه فأحج عنه قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم قال: فحج عنه)(6).

فنفهم من هذين الحديثين أن المسلم إذا عجز عن الحج لمرض أو كبر لا يستطيع معهما الحج حج عنه وليه.

أما من مرض مرضاً يرجى برؤه فلا يستنيب, ولو فعل لم يجزئه لمفهوم الحديثين السابقين.

وذكر أهل العلم أن من أناب شخصاً آخر يحج عنه لمرض لا يرجى برؤه ثم عوفي من مرضه لم يجب عليه الحج مرة أخرى وذلك إذا عوفي بعد الفراغ من النسك لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة كما لو لم يبرأ.

أما إن عوفي قبل إحرام النائب فإنه لا يجزيه للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل كالمتيمم يجد الماء.

أما إن عوفي بعد الإحرام وقبل الفراغ من النسك فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يجزيه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوساً منه.

ومن لزمه الحج أو عمرة فتوفى قبله وان استطاع مع سعة وقت وخلّف مالا أخرج عن الميت من ماله جميع ما وجب عليه.

ومن مات وعليه دين وقد لزمه حج وضاق ماله عنهما أخذ من ماله للحج بحصته كسائر الديون وحج عنه من حيث بلغ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (7), وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (8).

وإن مات من وجب عليه الحج بطريقه أو مات نائبه فيستناب عنه فيما بقي من مسافة.

ومن أراد أن يستنيب شخصاً للحج فيجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل أن يحج عن غيره فإن فعل بأن حج عن غيره قبل نفسه انصرف إلى حجة الإسلام لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمه, قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمه) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان (9).

ولا ينسى النائب أن فعل النسك أمانة فيما أعطيه من مال ليحج منه فيعتمر ويركب وينفق منه بمعروف.

وهناك بعض الأمور التي يجب أن يعتني بها وأن لا يستهان بها وهي أن يحرص المستنيب على اختيار من يعرف أحكام الحج والعمرة تماماً, وأن يكون تقياً ورعاً وإن زاد في المدفوع, وإن كان طالب علم فهو أفضل وأكمل, لمعرفته بأحكام الحج والعمرة, وليحذر أن ينيب من يتهاون في أمور دينه كمن يهمل صلاة الجماعة أو يرتكب بعض المحرمات كمن يشتغل بالغيبة والنميمة والكذب أو من يغش ويرابي أو يعق والديه أو يبيع ويشتري بالمحرمات وغيرها, لأن المعاصي وأكل الحرام من الموانع لقبول الدعاء والأعمال.

وليحرص على أن يكون المال المدفوع للنائب حلالاً فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيباً لا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) (10).
 


(1) آل عمران:97.

(2)أخرجه البيهقي في السنن( 4: 230 )وقال: هذا هو المحفوظ عن قتادة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3) أخرجه ابن ماجة( 2: 967 رقم 2897) المناسك باب ما يوجب الحج.

(4) أخرجه الإمام أحمد( 1: 255 و 219و371), والنسائي( 5:110 رقم 2619 )في مناسك الحج باب وجوب الحج.

(5)أخرجه الإمام البخاري( 3: 378 رقم 1513 ) كتاب الحج, باب وجوب الحج وفضله ومسلم( 2: 973 1344 ) الحج باب الحج عن العاجر لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت, وأبو داود رقم ( 1809 )في المناسك باب الرجل يحج عن غيره.

 

(6)أخرجه الإمام أحمد( 4: 5 ) والنسائي (5: 117 رقم 2638 ) مناسك الحج, باب تشبيه قضاء الحج, بقضاء الدين.

(6)التغابن:16.

(8) أخرجه الإمام البخاري ( 3: 378 رقم 1513) كتاب الحج, باب وجوب الحج وفضله ومسلم( 2: 973 1344 )في الحج باب الحج عن العاجر لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت, وأبو داود رقم ( 1809) المناسك باب الرجل يحج عن غيره.

(9) أخرجه أبو داود رقم ( 811 )في المناسك, باب الرجل يحج عن غيره, وابن ماجة( 2: 969 رقم 903 ) المناسك, باب الحج عن الميت.

(10)أخرجه الإمام البخاري( 3: 378 رقم 1513 ) كتاب الحج, باب وجوب الحج وفضله ومسلم( 2: 973 1344 ) الحج باب الحج عن العاجر لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت, وأبو داود رقم  1809 )في المناسك باب الرجل يحج عن غيره.

 

 

 



بحث عن بحث