من علوم الإسناد(5)

 

من حدّث فنسي:

تعريفه :

هو أن يروي ثقة عن شيخ حديثاً فيجحد الشيخ المروي عنه وينفي ما نسب إليه

قال ابن الصلاح: المختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال: ما رويته أو كذب عليّ أو نحو ذلك فقد تعارض الجزمان والجاحد هو الأصل فوجب رد حديث الفرع(1). اهـ.

قال القاري: وبالغ بعضهم في ذلك فنقل الإجماع عليه(2).

وقال ابن حجر: رد الخبر لكذب واحد منهما لا بعينه(3)، أي لكذب الأصل في قوله: كذب عليَّ أو ما رويت إن كان الفرع صادقاً، أو كذب الفرع في الرواية إن كان الأصل صادقاً في قوله: كذب عليَّ.

وقال ابن الصلاح: ثم لا يكون ذلك جرحاً له يوجب رد باقي حديثه لأنه مكذب لشيخه أيضاً في ذلك, وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا(4).

وفي شرح القاري: عدالة الأصل تمنع كذبه فيجوز النسيان على الفرع، وعدالة الفرع تمنع كذبه، فيجوز النسيان على الأصل، ولم يتبين مطابقة الواقع فلذلك لا يكون ذلك قادحاً(5). اهـ.

وإن كان إنكار الشيخ الحديث احتمالاً لا جزماً بأن قال المروي عنه: لا أعرفه أو لا أذكره أو نحو ذلك، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه، بل يقبل الخبر عند جمهور أهل الحديث وأكثر الفقهاء؛ لأن ذلك يحمل على نسيان الشيخ والحكم للذاكر، إذ المثبت الجازم مقدم على النافي المتردد.

وقال بعض الحنفية: لا يقبل لأن الفرع تبع للأصل في إثبات الحديث بحيث إذا ثبت أصل الحديث ثبتت رواية الفرع، فكذلك ينبغي أن يكون فرعاً عليه وتبعاً له في التحقق.

   مثاله :

بنى الحنفية على أصلهم ردّهم حديث سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) الحديث. من أجل أن ابن جريج قال: لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه(6).

وقد أعل هذا الحديث بما رواه الحاكم(7) بإسناده عن أبي حاتم : محمد بن إدريس الرازي ، قال :سمعت أحمد بن حنبل يقول - و ذكر عنده أن ابن علية يذكر حديث ابن جريج في :((لا نكاح الا بولي )) قال ابن جريج :فلقيت الزهري فسألته عنه ؟ فلم يعرفه ، و أثنى على سليمان بن موسى ، قال أحمد بن حنبل - : ان ابن جريج له كتب مدونة ، و ليس في كتبه((يعني : حكاية ابن علية عن ابن جريج) .

و قال الحاكم :((سمعت أبا العباس :محمد بن يعقوب يقول : سمعت العباس ابن محمد الدوري يقول : سمعت يحيى بن معين يقول – في حديث لا نكاح الا بولي الذي يرويه ابن جريج ، فقلت له : ان ابن علية يقول : قال ابن جريج فسألت عنه الزهري ؟ فقال : لست احفظه ، فقال يحيى ليس يقول هذا الا ابن علية ، و انما عرض ابن علية كتب ابن جريج على عبد المجيد بن عبد العزيز بن رواد فأصلحها له و لكن لم يبذل نفسه للحديث))

و قال الامام الترمذي :((و قد تكلم بعض أصحاب الحديث في حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال ابن جريج : ثم لقيت الزهري ، فسألته فأنكره ، فضعفوا هذا الحديث من أجل هذا )) (8)

.

و ما نقله الحاكم عن الامامين الكبيرين : أحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين يدل على أن هذه ليست علة تعل بها الأحاديث ؛ لأن الثقة مهما بلغ حفظه قد ينسى بعض ما يرويه ، و لا يكون ذلك قادحا في صحة ما رواه ، و للخطيب البغدادي في ذلك كتاب: ((من حدث فنسي )) . و رحم الله الحاكم حيث قال: ((فقد صح و ثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض فلا تعل هذه الروايات بحديث ابن علية و سؤاله ابن جريج عنه و قوله :اني سألت الزهري عنه فلم يعرفه ؛ فقد ينسى الثقة الحافظ بعد أن حدث به ، و قد فعله غير واحد من حفاظ الحديث )) (9)

و قد أجاب ابن حبان على ذلك بما لا مزيد عليه فقال: (هذا خبر وهم من لم يحكم صناعة الحديث أنه منقطع أو لا أصل له بحكاية حكاها ابن علية ، عن ابن جريج في عقب هذا الخبر قال: ( ثم لقيت الزهري فذكرت له ذلك فلم يعرفه و ليس هذا مما يهي الخبر بمثله ، و ذلك أن الخَيِّر الناقل المتقن الضابط من أهل العلم قد يحدث بالحديث ثم ينساه ، و اذا سئل عنه لم يعرفه ، فليس نسيانه الشيء الذي حدث به بدال على بطلان أصل الخبر ؛ و المصطفى خير البشر صلى فسها فقيل له : (يارسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال : كل ذلك لم يكن )فلما جاز على من اصطفاه الله لرسالته و عصمه من بين خلقه النسيان في أعم أمور المسلمين الذي هو الصلاة حتى نسي فلما استثبتوه أنكر ذلك ، و لم يكن نسيانه بدال على بطلان الحكم الذي نسيه ؛ كان من بعد المصطفى من أمته الذين لم يكونوا معصومين جواز النسيان عليهم أجوز و لا يجوز مع وجوده ان يكون فيه الدليل على بطلان الشيء الذي صح عنهم قبل نسيانهم ذلك)) (10)

و خلاصة القول : أن العلة زائلة و الحديث على أقل أحواله يكون حسنا لذاته . و قال الحافظ :((أخرجه أبو داود و الترمذي و حسنه و صححه أبو عوانة و ابن خزيمة ، و ابن حبان و الحاكم )) (11)

 (2) . وممن تكلم عن الحديث فأجاد ابن حزم رحمه الله(12)

المؤلفات في هذا الفن:

   وجمع الحافظ الخطيب ذلك في كتاب أخبار من حدث ونسي وقبله الدارقطني، وللسيوطي (تذكرة المؤتسي في ذكر من حدث ونسي).

________________________

(1) علوم الحديث ص 105 .

(2) شرح شرح النخبة ص 206 .

(3) شرح النخبة ص 131 .

(4) علوم الحديث ص 105 .

(5) شرح شرح النخبة ص 206 .

(6) الحديث أخرجه الترمذي في النكاح 1102 ، وأبو داود 2083 ، وابن ماجه 1879 .

(7)  المستدرك 2/169

(8) جامع الترمذي 3/410 حديث (1102) . و انظر نصب الراية 3/185 ، و المحلى 9/452 ، و شرح معاني الآثار 3/7 ، و تلخيص الحبير 3/180 ، و سبل السلام 3/16 ، و شرح السنة 9/39 .

(9) المستدرك 2/168 

(10) الاحسان 9/385-386 ، و نقله عنه الزيلعي 3/185 بتصرف

(11) فتح الباري 9/194

(12) المحلى 9/451-459 . و أنظر الأم 5/12-13 ، و التعلق المغني 3/219- 223 ، نيل الأوطار 6/249-251 ، و السنن الكبرى 7/105-113 ، و نصب الراية 3/185 ، و تلخيص الحبير 3/179-180 ، و سبل السلام 3/116-117 .



بحث عن بحث