تقوية الحديث الضعيف وضوابطه (2-2)

              

 

 بين الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - بعبارات موجزة ما يصلح من الطرق للتقوية، فقال وهو يضعف حديثا أورد له السبكي طرقا ضعيفة وواهية لا تصلح لتقويته قال :"وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض وهو موضوع عند أهل هذا الباب، فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها، والحاصل أن ما سلكه المعترض من جميع الطرق في هذا الشأن وتصحيح بعضها واعتماده عليه، وجعل بعضها شاهدا لبعض ومتابعا له، هو مما تبين خطؤه فيه" (1).

وقال أيضا :"وكم من حديث كثرت طرقه وهو حديث ضعيف، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفا..." (2).

ويستفاد من كلام الحافظ ابن عبد الهادي أن العبرة ليست بكثرة الطرق وتعددها، ولكن العبرة بكونها محفوظة سالمة من العلل القادحة والوهم والخطأ، وعلى هذا فيتعين عند النظر في الطرق تمحيصها والتدقيق فيها، والتأكد من سلامتها من النكارة والعلل القادحة قبل الاعتداد بها والاستفادة منها في تقوية الأحاديث.

قال الإمام أحمد :"الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبدا منكر"(3).

 ومراد الإمام أحمد - والله وأعلم - أن المنكر لا يعتبر به، ولا يحتاج إليه في باب الاعتضاد وشد الطرق ؛لعدم صلاحيته لذلك، ولا يستأنس به في مجال الاستدلال، وقد عرف عن الإمام أحمد الأخذ بالحديث الضعيف إذا لم يوجد في الباب ما يدفعه، قال - رحمه الله - :"طريقتي: لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب ما يدفعه"(4).

وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: ربما كان الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسناده شيء، فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه".

ولم يصحح الأئمة حديث: (الأعمال بالنيات) (5). إلا من طريق واحدة، وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة ولم يقووا الحديث بها، مع أن بعض الأسانيد أخطأ فيها من هو صدوق في الحفظ، وليس ضعيفا.

قال البزار :"لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من حديث عمر، ولا عن عمر إلا من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلا من حديث محمد، ولا عن محمد إلا من حديث يحيى"(6)

أما إذا كان الضعف لجهالة راويه، فقد اختار بعضهم أنه يرتقى إلى درجة الاحتجاج بعمل السلف وسكوتهم عند اشتهار روايته كعملهم، إذ لا  يسكتون عن منكر يستطيعون إنكاره(7).

  وإذا كان الضعف ناشئاً عن فسق الراوي أو كذبه فهذا النوع لا تؤثر فيه موافقة غيره له إذا كان الآخر مثله لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن أن يرفعه إلى درجه الحسن.

  قال ابن الهمّام في التحرير: حديث الضعيف بالفسق لا يرتقى بتعدد الطرق إلى الحجة وبغيره مع العدالة يرتقي (8) اهـ .

والحاصل أن تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد لها ضوابط من أبرزها: التأكد من كونها محفوظة سالمة من الخطأ والوهم؛ إذ إن تعدد الطرق من راو قد يكون بسبب اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه، وقد تكون الطرق الكثيرة ترجع إلى طريق واحد، وما يظن أنه شاهد يكون خطأ من بعض الرواة، والتساهل في هذا أدى إلى ضعف نقد السنة عند بعض العلماء المتأخرين والباحثين المعاصرين، وحصل في أحكامهم على الأحاديث مخالفة للأئمة المتقدمين، وربما اعترضوا على الأئمة في تضعيفهم لبعض الأحاديث، ونازعوهم بوجود شواهد ومتابعات للحديث، وكأن الأئمة لم يطلعوا عليها، ولم تطرق أسماعهم، وقد ينفي بعض الأئمة في باب من أبواب العلم وجود حديث فيه، أو يقيد النفي بالصحة، فتنهال عليهم الإيرادات والاستدراكات بوجود أحاديث صحيحة لها طرق متعددة أو لها شواهد، كأن الأئمة لم يطلعوا عليها، وكان الأجدر قبل الاستدراك النظر في هذه الطرق والشواهد، وهل هي صالحة للاعتبار بها أم لا، لا سيما وقد يكون الاعتماد في جمع الطرق والشواهد على كتب ومصنفات هي مجمع الغرائب والمناكير، مثل: معاجم الطبراني، ومسند البزار، وسنن الدارقطني، وكتب الفوائد والأفراد والغرائب، قال الإمام أحمد :"إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان، وإذا سمعتهم يقولون: لا شيء، فاعلم أنه صحيح" (9).

وقال الخطيب البغدادي :"أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان، يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا، والثابت مصروفا عنه مطرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين" (10).

وقال ابن رجب معلقا على كلام الخطيب البغدادي :"وهذا الذي قاله الخطيب حق، ونجد كثيرا ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح لكتب السنة ونحوها ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل"مسند البزار"، و"معجم الطبراني"، و"أفراد الدارقطني"، وهي مجمع الغرائب والمناكير. (11).

 وخلاصة القول : أن العدالة والضبط إما أن يجتمعا في الراوي أو ينتفيا عنه أو يوجد فيه أحدهما دون الآخر ، فإن انتفيا لم يقبل حديثه أصلاً ، وإن اجتمعا فيه قُبلَ ، وإن وجدت العدالة دون الضبط توقف القبول فيه على التابع والشاهد ليجبر ما فات من صفة الضبط ، وإن وجد الضبط دون العدالة لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الرواية (12) اهـ .

 __________________________________

(1) الصارم المنكي ( ص : 243 ) .

(2) نصب الراية ( 1 \ 360 )، تنقيح التحقيق ( 2 \ 831 ) .

(3) علل الحديث ومعرفة الرجال ( ص : 120 ) .

(4) خصائص المسند لأبي موسى المديني ص ( 27 ) .

(5) صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)

(6) تدريب الراوي 1 \ 238، وينظر : مسند البزار 1 \ 381، 382 .

(7) التحرير ص 318 ، والتقريب ص 104

(8) التحرير ص 318  .

(9) شرح علل الترمذي( 1 \ 409 )  الكفاية ص 142

(10) الكفاية ص 142 .

(11) شرح علل الترمذي( 1 \ 409 ).

(12)  توجيه النظر ص 30



بحث عن بحث