الحلقة (31):الضعيف بسبب السقط من السند(6)

المدلَّس (1)

تمهيد:

ما تقدم من الحلقات الخمس في السقط من السند هو داخل في قسم واحد وهو السقط الظاهر والقسم الثاني هو ما كان السقط فيه خفيًا بحيث يخفى على كثير من ممن يشتغل بهذا العلم، بل لا يدركه إلا الأئمة الحذاق المطّلعون على طرق الحديث وعلل الأسانيد لخفائه وغموضه، وهو نوعان هما:

 1- المدلَّس.    2- المرسل الخفي.

فالمدلَّس:

لغةً: اسم مفعول مشتق من الدَّلَس – بفتحتين – وهو الظلمة كالدلسة – بالضم – ومنه قولهم: أتانا دلس الظلام، وخرج في الدلس والغلس. والتدليس كتمان عيب السلعة عن المشتري(1).

واصطلاحًا: ما أُخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه.

سمي بهذا الاسم لأن الراوي لما أخفى وجه الصواب على الواقف على الحديث كأنه أظلم أمره وغطاه.

أقسامه:

ينقسم التدليس إلى خمسة أقسام:

1- تدليس الإسناد.

2- تدليس التسوية.

3- تدليس القطع.

4- تدليس العطف.

5- تدليس الشيوخ.

أولاً : تدليس الإسناد:

تعريفه: هو أن يروي المحدث عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهمًا أنه سمعه منه، ويكون ذلك بلفظ محتمل للسماع وغيره، كـ: قال أو عن، ليوهم غيره أنه سمعه منه. ولا يصرح بأنه سمع منه هذا الحديث بعينه فلا يقول: سمعت أو حدثني أو أخبرني ممن لم يسمع منه حتى لا يصير كذابًا بذلك.

وقولنا: عمن لقيه شامل لمن يسمع منه غير الحديث المراد أو لم يسمع منه شيئًا.

وأدخل ابن الصلاح(2) في هذا القسم رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه موهمًا أنه قد لقيه وسمعه منه. وتبعه على ذلك ابن كثير في اختصاره. وذهب الإمام الشافعي والبزار والخطيب والحافظ ابن حجر وغيرهم إلى أن هذه الصورة ليست من التدليس لأن مجرد ثبوت المعاصرة لا يكفي في تحقيق التدليس، بل لابد من ثبوت اللقاء بينهما.

وأيَّدوا ما ذهبوا إليه بأن أهل العلم أجمعوا على أن المخضرمين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم وغيرهما، إذا روى أحدهم حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت روايته من قبيل الإرسال وليست من قبيل التدليس(3).

الخلاصة:

أن للراوي مع من يروي أربع حالات:

الأولى: أن يثبت سماعه منه.

الثانية: أن يثبت لقاؤه له دون السماع.

الثالثة: أن تثبت المعاصرة له دون اللقاء.

الرابعة: أن لا تثبت المعاصرة ومن باب أولى اللقاء والسماع، ويروى عنه بصيغة موهمة للسماع كـ: عن وأن.

فالأولى: إذا روى عنه ما لم يسمعه منه فتدليس اتفاقًا.

والثانية: إذا روى عنه بصيغة موهمة شملها مسمى التدليس عند الجمهور خلافًا لأبي بكر البزار وأبي الحسن ابن القطان حيث جعلاها من الإرسال الخفي.

والثالثة: إذا روى عن المعاصر ممن لم يلقه، فالجمهور على أنه ليس من التدليس، كما تقدم قريبًا خلافًا لابن الصلاح حيث جعلها من التدليس.

والرابعة: ليست من التدليس عند جماهير المحدثين خلافًا لجماعة من أهل الحديث فيما نقله ابن عبد البر في التمهيد لاحتمال الصيغة.

وتدليس الإسناد يسميه بعضهم تدليس الإسقاط.

مثاله: : ما أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم (4554) قال : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ [ يعنى ابن عُيينة ] عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، مَسْجِدَ قُبَاءَ ، يُصَلِّي فِيهِ ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ رِجَالُ الأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ، وَدَخَلَ مَعَهُ صُهَيْبٌ ، فَسَأَلْتُ صُهَيْبًا : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : يُشِيرُ بِيَدِهِ . قَالَ سُفْيَانُ : قُلْتُ لِرَجُلٍ : سَلْ زَيْدًا أَسَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ ؟ وَهِبْتُ أَنَا أَنْ أَسْأَلَهُ ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَامَةَ ! سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْتُهُ فَكَلَّمْتُهُ .

قال الحافظ ابن حجر(4): وقد عزاه للبيهقي :" وفي هذا الجواب إشعار بأنه لم يسمع هذا بخصوصه منه ، مع أنه مكثر عنه ، فيكون قد دلَّسَهُ "(5)

 

حكمه:

مكروه جدًّا ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة بن الحجاج من أشدهم ذمًّا له، فقد قال فيه أقوالاً منها: التدليس أخو الكذب. وقال: لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس، وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه(6) .

وقال النووي: وظاهر كلام شعبة أنه حرام وتحريمه ظاهر فإنه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به، ويتسبّب أيضًا إلى إسقاط العمل بروايات نفسه مع ما فيه من الغرر(7).

 

 

_______________________

(1) انظر: تهذيب اللغة الأزهري (12/362).

(2) علوم الحديث، ص(66).

(3) النكت لابن حجر (2/408)، وفتح المغيث (1/208)

(4) في "تعريف أهل التقديس " ص20.

(5) وأخرجه النسائي في سننه رقم (1187) وابن ماجه في إقامة الصلاة رقم (1017) والدارمي في الصلاة رقم (1362) من طريق سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ... " نحوه ، ولم يذكرا قول سفيان .

وهذا الحديث بالفاظه ليس لزَيْدٍ ، فيه تصريح بتحديث ، أو سماع .

(6) انظر: الكفاية، ص(508)

(7) شرح مسلم (1/33)



بحث عن بحث