أهمية علم العلل وصعوبته

 

2- أهمية علم العلل وصعوبته

يعتبر علم العلل من أجلِّ أنواع علوم الحديث(1)، وأدقِّها وأشرفها . وإنَّما يضطَّلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثَّاقب(2).

قال ابن حجر عن هذا العلم : « هو من أغمض أنواع علوم الحديث ، وأدقِّها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقباً ، وحفظاً واسعاً ، ومعرفة بمراتب الرُّواة ، وملكة قوية بالأسانيد والمتون . ولذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشَّأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة الرَّازيَّين والدَّارقطني » ، قال : « وقد تقصر عبارة المعلِّلِ عن إقامة الحجَّة على دعواه ، كالصَّيرفيِّ في نقد الدِّينار والدِّرهم »(3).

قال ابن المديني : « لأنْ أعرف علة حديث هو عندي أحب إليَّ من أن أكتب عشرين حديثاً ليس عندي »(4).

وقال ابن مهدي : « لأَنْ أعرفَ علةَ حديثٍ واحدٍ أحبُّ إليَّ من أن أستفيد عشرة أحاديث »(5).

وقال الحاكم : « هو عِلْمٌ برأسه غير الصَّحيح والسَّقيم ، والجرح والتَّعديل » .

وقال أيضاً : « معرفة علل الحديث من أجلِّ هذه العلوم »(6).

ولأهمية هذا العلم كان بعض المحدِّثين يعقدون مجالس خاصة به .

قال ابن عبد الحكم : « ما رأينا مثل الشَّافعي كان أصحاب الحديث ونقَّاده يجيئون إليه فيعرضون عليه فربما أعلَّ نقد النُّقاد منهم ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجَّبون منه »(7).

وقال الخطيب : « أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصَّرف ونقد الدِّنانير والدِّراهم ، فإنه لا يعرف جودة الدِّينار والدِّراهم بلون ولا مسٍّ ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق أو سعة ، وإنَّما يعرفه النَّاقد عند المعاينة ، فيعرف البَهْرَجَ الزَّائِفَ والخالص والمغشوش ، وكذلك تمييز الحديث ، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به »(8).

واقترن بهذه الأهمية صعوبات كثيرة لا يكاد يدركها إلا الحافظ ومن خاض غمار هذا الأمر وعاناه .

قال ابن المديني : « أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة - لا أسميه - حديثاً ، قال فغضب له جماعة ، قال : فأتوه ، فقالوا : يا أبا سعيد من أين قلت هذا في صاحبنا‍‍ ؟ قال فغضب عبد الرحمن بن مهدي وقال : أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي فقال : انتقد لي هذا . فقال : هو بهرج . يقول له : من أين قلت لي : إنه بهرج ؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم »(9).

قال ابن نمير : قال عبد الرحمن بن مهدي : « معرفة الحديث إلهام . لو قلت للعالم يعلِّل الحديث من أين قلت هذا ؟ لم يكن له حجة » ، قال ابن نمير : « وصدق ، لو قلت له من أين قلت ؟ لم يكن له جواب »(10).

وعقَّب السخاوي على قول ابن مهدي الأخير : « يعني يعبر بها غالباً ، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض »(11).

وقال ابن مهدي أيضاً : « إنكارنا للحديث عند الجهَّال كهانة »(12).

وقال ابن نمير : « معرفة الحديث بمنـزلة الذهب ، إنما يبصره أهله ، وليس للبصير فيه حجة … »(13).

ومما يدلُّ على قولِ ابنِ مهدي ما حكاه أبو زرعة الرَّازي ، وسأله رجل : « ما الحجَّة في تعليلكم الحديث » ؟ قال : « الحجَّة أن تسألني عن حديث له علَّة ، فأذكر علته . ثم تقصد أبا حاتم فيعلله ، ثم تميِّز كلام كلٍ مِنَّا على ذلك الحديث ، فإن وجدَّت بيننا خلافاً في علته ، فاعلم أنَّ كلاً مِنَّا تكلَّم على مراده ، وإن وجدَّت الكلمة متَّفقة فاعلم حقيقة هذا العلم » . قال : ففعل الرجل فاتفقت كلماتهم . فقال : « أشهد أن هذا العلم إلهام »(14).

وقال نعيم بن حماد لابن مهدي : « كيف تعرف صحيح الحديث من سقيمه؟ قال : كما يعرف الطبيبُ المجنونَ »(15).

وقال الحاكم : « إن الصَّحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنَّما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السَّماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ، ليظهر ما يخفى من علة الحديث ، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصَّحيحة غير المخرَّجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم ، لزم صاحب الحديث التَّنقير عن علته ، ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته »(16).

وقال ابن رجب عن الحفَّاظ : « فإنَّ هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختصُّ البصير الحاذق بمعرفة النُّقود ، جيِّدها ورديئها ومشوبها ... ، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبِّر عن سبب معرفته ، ولا يقيم عليه دليلاً لغيره » ، قال : « وبكل حال ، فالجهابذة النُّقاد والعارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جداً ... »(17).

وقوله : « لا يقيم عليه دليلاً لغيره » ، أراد به الدَّليل القطعي اليقيني على ما ذكر من وَهْمٍ أو خطأ للراوي . أما الدليل بالقرائن والخبرة فهذا ما لا يُنفى علمهم به .

وقال ابن قيِّم الجوزية : « وربَّما يظنُّ الغالط الذي ليس له ذَوق القوم ونقدهم أَنَّ هذا تناقضٌ منهم ، فإنهم يحتجُّون بالرَّجل ويوثقونه في موضع ، ثم يضعِّفونه بعينه ولا يحتجُّون به في موضع آخر . ويقولون : إن كان ثقة وجب قبول روايته جملة ، وإن لم يكن ثقة وجب ترك الاحتجاج به جملة . وهذه طريقة فاسدة مُجمعٌ بين أهل الحديث على فسادها ، فإنهم يحتجُّون من حديث الرجل بما تابعه غيره عليه وقامت شهوده من طرقٍ ومتونٍ أخرى ، ويتركون حديثه بعينه إذا روى ما يخالف النَّاس أو انفرد عنهم بما لا يتابعونه عليه . إذِ الغلط في موضع لا يوجب الغلط في كل موضعٍ والإصابة في بعض الحديث أو في غالبه لا توجب العصمة من الخطأ في بعضه ولا سيَّما إذا عُلم من مثل هذا أغلاطٌ عديدةٌ ثم روى ما يخالف النَّاس ولا يتابعونه عليه فإنَّه يغلب على الظن أو يجزم بغلطه .


 

(1)     قاله الخطيب في الجامع (2/450) .
(2)     علوم الحديث لابن الصلاح (ص 116) .
(3)     نـزهة النظر لابن حجر (ص 89) ، وقوله بقصور العبارة أمر نسبي نادر ، والنص كرره في النكت (2/711) بنحوه .
(4)     العلل لابن أَبي حاتم (1/10) .
(5)     المعرفة للحاكم (ص112) والجامع للخطيب (2/452) والسير (9/206) وشرح العلل (1/199) .
(6)     معرفة علوم الحديث للحاكم (ص112و119) .
(7)     تاريخ دمشق (51/335) ، والنص يحتمل أن المراد بالعلة فيه الفقهية ونحوها .
(8)     الجامع (2/382) .
(9)     الجامع للخطيب (2/383) .
(10)     العلل لابن أَبي حاتم (1/10) والجامع للخطيب (2/383) .
(11)     فتح المغيث (1/236) .
(12)     المصدران السابقان ، وعني بالجهال من لا علم لهم بالعلل .
(13)     الجامع للخطيث (2/384) .
(14)     المعرفة للحاكم (ص113) والجامع للخطيب (2/384) ، وقد عبر السخاوي عن ذلك بتعبير آخر فقال : « أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم ردُّه ، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها » - فتح المغيث (1/274) ، وفي عبارته شيء ، فلو عبر بما عبر السلف لكان أولى وأدق .
(15)     الجرح (1/252) والمجروحين (1/32) .
(16)     المعرفة للحاكم (ص59-60) .
(17)     جامع العلوم (27) .



بحث عن بحث