النيابة في الحج

 

عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: كان الفضل رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: (نعم) وذلك في حجة الوداع. متفق عليه.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.

هذان حديثان كلاهما في موضوع النيابة في الحج، نقف معهما الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: مما هو مقرر في الشرع، أنه يجب على المسلم حج بيت الله الحرام، فهو الركن الخامس من أركان الإسلام والواجب أن يقوم بنفسه فيه، متى ما اكتملت شروطه، وذلك بأن يكون مسلماً بالغاً حراً عاقلاً مستطيعاً، وتزيد المرأة شرطاً سادساً هو وجود محرم لها، وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح.

والاستطاعة في حق الجميع ملك زاد يحتاجه في سفره ذهاباً وإياباً من مأكول، ومشروب، وكسوة، وملك لابد له منه، أو ملك أجرة تمكنه من الركوب ذهاباً وإياباً.

عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: الزاد والراحلة، يعني قوله تعالى: (مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1).

فمن توفرت فيه هذه الشروط وجب عليه المبادرة بالحج.

الوقفة الثانية: مما يدل عليه الحديث الأول أن من عجز لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، لكونه ثقيلاً لا يستطيع الركوب إلا بمشقة شديدة، أو لكونه ضعيف الجسيم جداً، وما شابه ذلك، لزمه أن يقيم نائباً عنه يؤدي عنه فريضة الحج، ووجه الدلالة من الحديث ما جاء فيها: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: (نعم).

وروى أحمد والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه، قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم. قال: فحج عنه.(2)

أما من مرض مرضاً يرجى برؤه فلا يستنيب، فإن فعل لم يجزئه لمفهوم الحديثين.

الوقفة الثالثة: يفيد الحديث الثاني أن من لزمه حج أو عمرة فتوفى قبله وكان استطاع مع سعة وقت، وخلف مالاً أخرج عن الميت من جميع ماله ما وجب عليه.

قال الفقهاء: ومن مات وعليه دين، وقد لزمه حج، وضاق ماله عنهما، أخذ من ماله للحج بحصته كسائر الدين، وحج عنه، من حيث بلغ لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقال - عليه الصلاة والسلام-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).

الوقفة الرابعة: مما يكمل أحكام الإنابة في الحج أن مَنْ أراد أن يستنيب شخصاً للحج فيجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل أن يحج عن غيره، فإن فعل بأن حج عن غيره قبل نفسه انصرف إلى حجة الإسلام؛ لما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: (من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان(3).

الوقفة الخامسة: مما يفيده الحديث الأول أنه يجب على المسلم، وبخاصة الذي تلبس بعبادة الحج أن يغض بصره عن الحرام، لئلا يفسد عليه حجه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- لما شاهد الفضل ينظر إلى المرأة السائلة صرف بصره، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، وقال -  عليه الصلاة والسلام-: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه مسلم .

ولا شك أن إطلاق البصر في المحرمات من الرفث، إذ فسره أهل العلم بالجماع ودواعيه.

وعلى المسلم أن يتجنب كل ما يشين حجه، وينقص أجره، أو يضعفه.

الوقفة السادسة: مما يفيده الحديثان المسارعة إلى بر الوالدين، ومن ذلك برهما حال ضعفهما، كحال الكبر، أو بعد موتهما، ومن مواضع البر الطاعات المشروعة عنها، ومنها الحج والعمرة، وكذا الإنفاق، والصدقة، والدعاء، وغيرها، فمن التوفيق للمسلم في هذه الحياة أن يوفق لبر والديه بقدر ما يستطيع، ففي ذلك النجاة، والفلاح، والفوز في الدنيا والآخرة.

 

 

 

_________________________________

(1)      رواه بن ماجه 2/967 برقم 2897 كتاب المناسك.

(2)      رواه أحمد في 4/5 والنسائي في 5/117 كتاب المناسك.

(3)      رواه أبو داود برقم (811) في المناسك، وابن ماجه في 2/969 في المناسك.

 



بحث عن بحث