الحديث الخامس عشر

من أسباب عذاب القبر: عدم الاستتار من البول

 

عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- قال: مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: (إنهما لعيذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)، فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ فقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)(1).

هذا حديث عظيم، يحمل معان عظيمة، وأحكاماً مهمة، وتوجيهات كريمة، وآداباً عالية، ومسائل، وحكماً، وفوائد كثيرة، نفصلها في الوقفات الآتية:

الأولى: قوله (مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين): أي بصاحب قبرين، فعبر بالقبرين عن صاحبهما، ولم يرد في هذا الحديث، ولا غيره أسماءهما، ولذلك ذكر أهل العلم أنه لا ينبغي تسمية من عمل عملاً غير سليم ستراً عليه، وهو عمل مستحسن، أما الأعمال الحسنة فينبغي ذكرها، والثناء على صاحبها، شريطة أن لا يكون في حضوره.

الثانية: قول: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير): في رواية للبخاري زاد قوله: (قال: بلى): أي إنه لكبير، والمراد بهذه الجملة أي أنهما يعذبان في ذنب، ظناً منهما- أو في ظن المخاطبين- أنه ليس كبيراً، وهو كبير عند الله - سبحانه وتعالى- كما قال - سبحانه وتعالى-: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)(2).

وقيل إن المعنى ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي أنه لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك. وقيل ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيراً بالمواظبة عليه. وفي هذه الجملة دلالة على إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ومن وافقهم، خلافاً لبعض الطوائف المنحرفة في هذا الباب، الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة عليه، ومن أصرحها قوله تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً)(3)، قال بعض المفسرين: المراد عذاب القبر..

وروى البخاري، ومسلم - رحمهما الله- عن عائشة - رضي الله عنها- (أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، قالت عائشة - رضي الله عنها-: فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عذاب القبر، فقال: (نعم عذاب القبر حق)، قالت فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر)(4).

وروى الجماعة عن ابن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي: إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)(5).

وروى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: أنظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيراهما جميعا، وأما الكافر – أو المنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلى الثقلين)(6).

وغير هذه النصوص كثير، مما يدل على أن الإنسان ينعم في قبره أو يُعذّب.

الثالثة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول): جاء في رواية: (لا يستبرئ)، وفي رواية: (لا يستنزه)، وفي رواية: (كان لا يتوقى)، والمراد بقوله: لا يستتر أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة، فلا يتحفظ منه، وقال بعض أهل العلم: معناه لا يستر عورته، والمعنى الأول أصح، والله أعلم، ذلك أن العذاب أضيف إلى  عدم الاستتار من البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى. قاله ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى-.

والإشارة في هذا الحديث إلى أن عدم التنزه من البول، والتحفظ منه يسببان عذاب القبر، يدل على أن الإسلام دين الطهر والثناء، فكما أنه يرغب، بل ويأمر الناس إلى تطهير القلوب من أوساخها، وينبغي علاجها من أمراضها، كالحقد، والغل، والحسد، والبغضاء، ونحوها، ويرتب على ذلك أجراً عظيماً، وعلى خلافه إثماً مبيناً، فكذلك النجاسات الظاهرة، لها أهميتها وشأنها، فعلى المسلم أن يتطهر، ويتنظف عن النجاسات كلها، وأن يحترز منها؛ لئلا يتعرض لعقاب الله، وغضبه، ومقته.

والنميمة: نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض، على جهة الإفساد بينهم، فالغرض منها إفساد وتخريب، سواء كان ذلك بالقول، أو بالفعل، وسواء كان بين شخصين منفردين كالزوج وزوجته، والصديق وصديقه، والقريب وقريبه، وغير ذلك، أو بين هيئتين، أو مجتمعين، أو دولتين، فكل ما أفسد هذه العلاقة يدخل في النميمة.

ولا شك أن حكمها حرام بإجماع المسلمين، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، ودل على ذلك كتاب الله - جل وعلا-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما دل على تحريمها قواعد الشريعة العامة. والنصوص في تحريمها كثيرة جداً، وقد جاءت بصيغ مختلفة، فتارة بصيغة النهي عنها، وأخرى ببيان الوعيد لمن ارتكبها، وثالثة بالترهيب من الوقوع فيها، وخامسة ببيان عقوبة المتعاملين بها، وغير ذلك، ومن تلك النصوص قوله - سبحانه وتعالى-: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أثيم)، ويقول - جل وعلا-: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(7).

وويل واد في جهنم، لو جعلت فيه جبال الدنيا كلها لذابت من حرّه، والعياذ بالله. ومن السنة ما رواه البخاري، ومسلم - رحمهما الله تعالى- عن حذيفة - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يدخل الجنة قتات)(8)، والقتات هو النمام، وفي رواية لمسلم: (لا يدخل الجنة نمام)(9)، وروى مسلم - رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: إن محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أنبئكم ما لعضة؟ هي النميمة القالة بين الناس)(10).

وروى الإمام أحمد، وغيره، عن عبد الرحمن بن غنم، يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبة، الباغون للبراء العنت)(11).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، ويكفي أنها سبب لعذاب القبر، فعلى كل مسلم ومسلمة أن يجتنب هذا الداء الفتاك، ويعالج نفسه إن كان فيه شيء من ذلك؛ لئلا يقع في عذاب الله تعالى ومقته، وأما من نقل إليه شيء من النميمة كأن يقول: فلان يقول فيك كذا، أو تصرّف تجاهك كذا، أو يحمل عليك كذا، فعليه برده، حتى لا يقع فريسة لهذا النمّام، يقول الإمام النووي - رحمه الله-: (وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: فلان يقول فيك، أو يفعل فيك كذا فعليه بستة أمور:

الأول: أن لا يصدق؛ لأن النمام فاسق.

الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه، ويقبح فعله.

الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.

الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.

الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.

السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته عنه، فيقول: فلان حكى كذا، فيصير به نماماً، ويكون آتياً ما نهى عنه.)

الرابعة: قول الراوي: (فأخذ -صلى الله عليه وسلم- جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).

هذا تصرف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدل على رحمة هذا النبي العظيم بأمته، لعل الله تعالى أن يخفف العذاب عن صاحبي القبرين، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جريدة، والمقصود بالجريدة سعفة النخل، وقد يسأل سائل هل هذا العمل مشروع في مثل هذه الحالات؟ والجواب عن ذلك أن ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أنه لا يشرع؛ لأن هذا العمل شرع وعبادة، وهو يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يثبته، أما هذه القصة فقضية عين حكمتها مجهولة، ولذا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع غير صاحبي هذين القبرين، ولم يفعله من الصحابة أحد بعده. والله أعلم.

 


 


(1)      أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله 1/91 رقم 216.

(2)      سورة النور، الآية: 15.

(3)      سورة النور، الآية: 15.

(4)      رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 1/4308 رقم 1372، ورواه مسلم في كتاب الكسوف، في ذكر عذاب القبر في الصلاة 2/509 الجزء السادس برقم 8.

(5)      رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي 1/409 برقم 1379.

(6)      رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 1/408 رقم 1374.

(7)      سورة الهمزة، الآية1.

(8)      رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره في النميمة 4/1912 رقم 6056، ومسلم في كتاب الإيمان، باب لا يدخل الجنة نمام 1/285 رقم 169.

(9)      التخريج السابق.

(10)      رواه مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم النميمة 6/122 رقم 102.

(11)      رواه الإمام أحمد في مسنده 6 رقم 459.

 



بحث عن بحث