شبهات حول دراسة الأسانيد والجرح والتعديل (1)

 

أهمية الإسناد ومكانته، من أهمية الحديث ومكانته، فالتشكيك في الإسناد وإضعاف الثقة به، هو إضعاف الثقة بالحديث النبوي، الذي هو مصدر للتشريع مع كتاب الله تعالى، وهذا ما دعا المستشرقون ومن تبعهم، ومن معهم أن يوردوا شبهات تشكيكية في هذه الأسانيد ولكن ردها النقاد وبينوا خطأهم وجهلهم.

وهنا نبين شيئًا من ذلك بما يناسب المقام..

انتقد بعض المستشرقين وتبعهم بعض الكُتَّاب مثل: طه حسين، وأحمد أمين، وأبو رية(1) منهج النقد عند المحدثين بأنهم لم يتعاملوا بموضوعية مع كل رجال السند، باعتبار أن تعديل الصحابة ن مساحة غير مسموح لأحد أن يتجاوزها مقررين أن بساط الصحابة ن قد طوي ومكانتهم جازت القنطرة، في حين أنهم بشر كغيرهم وثبت فيهم النفاق والخطأ وغير ذلك، فما الذي يجعلهم منزهين عن النقد والجرح والتعديل؟

وتحريرًا لمحل النزاع فإن منهج النقد عند المحدثين لا ينزه الصحابة عن أي خطأ بل الاعتقاد بعصمتهم ليس في معتقد أهل السنة أصلًا، والنقاد يستجيزون نسبة الخطأ إلى الصحابة متى قام الدليل القوي على ذلك، وقد ثبت أن الصحابة خطأ بعضهم بعضًا، وهذه النقطة متعلقة بجواز ورود الخطأ على الصحابي، وهذا لا ينازع فيه المحدثون.

أما ما ينازع فيه المحدثون - ولا يقوله المستشرقون ومن تبعهم - أن تعرض مرويات الصحابة لمعرفة الحافظ منهم والساهي، فالمحدثون يفترضون مسبقا ضبط الصحابة وعدالتهم (أي ديانتهم). ولنتحدث عن القضيتين كلا على حدة.

عدالة الصحابة :

أولًا: إن قضية عدالة الصحابة أمر مجمع عليه بين أهل السنة، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب المتبوعة كالظاهرية وأتباع الأوزاعي وغيرهم ممن انقرضوا الآن، والمخالف لهذه القضية محجوج بالآيات المستفيضة والسنة الصحيحة في تعديل كل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

والاستطراد في ذكر ذلك يخرج بالبحث عن موضوعه، ويهمنا أن نقرر أن عدالة الصحابة قضية متناسقة مع المنهج العلمي.

قال الإمام مالك: «إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه من الصالحين»(2) .

ثانيًا: ويزيد هذا التأصيل قوة أمر بالغ الأهمية، وهو كاف في إثبات منهجية المحدثين في تعديل الصحابة. ذلك أن المنطق العقلي يفترض التسليم ببعض الحتميات التاريخية، وبمبدأ العلة والسبب المؤثر، والذي لا يستطيع طه حسين وأحمد أمين وأبو رية أن ينكروه.

وتأسيسًا على ذلك نقول: إن التاريخ الذي كتبه أهل السنة وغيرهم لا يوجد فيه نص واحد يفي أن الصحابة كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحيل في المنطق العقلي أن يجتمع كل المؤرخين على اختلاف مشاربهم «بما فيهم الشيعة الذي حنقوا على الصحابة أيما حنق» على نفي الكذب أو عدم رواية شيء يفيد ذلك عن الصحابة ثم يأتي باحث في القرن الخامس عشر الهجري ويقول: يجوز أن يكذبوا. هذا مع وجود الخلافات والحروب التي كانت بينهم ومع ذلك لم يثبت أن واحدًا منهم اتهم أحدًا بالكذب.

ثالثًا: وتجويز النفاق على أي صحابي لا يتفق مع المنهج العلمي في شيء، لأن مجرد الاحتمال الذي لا يقوم على أساس لا يسوغ استخدامه في إصدار الأحكام، وإلا جاز اتهام جبريل نفسه عليه السلام بالنفاق، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الوهاء والبطلان.

رابعًا: في منهج النقد التاريخي الأوروبي يقرر «لانجلوا وسينوبوس» أن انتحال الكتب في العصور الوسطى كان عادة جارية مقبولة في أوروبا لا يعاقب صاحبها، ومع ذلك فالمنهج العلمي لديهم يسوغ الاعتماد على نسخ لا يعرف من كتبها ولا من نسخها ولا من رواها معتمدين على عمايات وظلمات بعضها فوق بعض للوصول إلى أية حقيقة من وراء تلك الوثيقة اللقيطة(3) .

لماذا لا يعتبر هذا المنهج غير موضوعي بل غير علمي أصلًا، إذ يسوغ الاعتماد على المجهول الذي لا يعرف، بينما صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفت أسماؤهم وكناهم وفضائلهم ومواليدهم ووفياتهم وكل صغيرة وكبيرة في حياتهم، فأي الفريقين أولى بقول الرواية منه والأخذ عنه؟

ويستدل القادحون في عدالة الصحابة بحديث أنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن أناس سيطردون عن حوضه يوم القيامة وأنهم هم الذين بدلوا وأحدثوا بعده، وهو حديث متواتر(4)، ووجوده دليل على عدالة الصحابة وليس قادحًا فيها، فالمتهم لا يقدم دليل اتهامه، والسارق لا يصطحب في السوق مسروقاته معه، كما لا يروي الكاذب دليل كذبه.

________________________

 

(1) تهذيب الكمال (6/384).

(2) الصارم المسلول، ص(55).

(3) انظر المدخل إلى الدراسات التاريخية. لانجلوا وسينوبوس، ص(70).

(4) الحديث رواه البخاري (6/2587)، ومسلم (4/1793) وغيرهما. وقد فسر البخاري من أحدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأنهم المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ط، انظر صحيح البخاري (4/142 – 143).



بحث عن بحث