حديث ( أي الإسلام خير )

 

قال البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الإيمان) من صحيحه:

حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).

المبحث الأول/ التخريج:

أورد البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أولها في (باب إطعام الطعام من الإسلام)، والثاني في (كتاب الإيمان) أيضاً في (باب إفشاء السلام من الإسلام) ولفظه: حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مثله، والثالث في (كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة) ولفظه: حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث قال حدثني يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى ومن لم تعرف)).

ورواه مسلم في صحيحه فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث (ح) وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو مثله. ورواه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه عن قتيبة بن سعيد عن الليث بمثل إسناده ومتنه. وأخرجه النسائي في (كتاب الإيمان) من سننه بمثل سنده ومتنه عند أبي داود.

ورواه ابن ماجه في (كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام) فقال: حدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).

ورواه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا حجاج وأبو النضر قالا: حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال خير؟ قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).

والحديث رواه البخاري في (الأدب المفرد، باب التسليم بالمعرفة وغيرها) عن شيخه قتيبة بن سعيد بمثل إسناده ومتنه في الصحيح، وفي (باب من كره تسليم الخاصة) عن عبد الله بن صالح عن الليث بمثل إسناده ومتنه. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي بكر بن خلاد عن الحارث بن أبي أسامة عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بمثل إسناده ومتنه. وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة حامد بن سعدان بإسناده إليه عن ابن رمح وابن زغبة عن الليث بمثل سنده ومتنه.

 

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري عمرو بن خالد: قال الحافظ في (التقريب): عمرو بن خالد بن فروخ بن سعيد التميمي، ويقال: الخزاعي، أبو الحسن الحراني، نزيل مصر، ثقة، من العاشرة، مات سنة تسع وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري وابن ماجه.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع الليث بن سعد وزهير بن معاوية روى عنه البخاري في مواضع، وقال: مات بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، والدار قطني، ومسلمة. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال الذهبي في (الميزان): ثقة مشهور.

الثاني: الليث ـ وهو ابن سعد ـ: قال الحافظ في (التقريب): الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة، ثبت، فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شبعان سنة خمس وسبعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): ((الفهمي مولاهم، الإمام، عالم مصر وفقيهها ورئيسها)). وقال الذهبي في (الميزان): ((أحد الأعلام والأئمة الأثبات، ثقة حجة بلا نزاع)). وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن أحمد، وابن سعد، وابن معين، وابن المديني، والعجلي، والنسائي، ويعقوب بن شيبة. وقال: قال ابن حبان في (الثقات): ((كان من سادات أهل زمانه فقهاً، وورعاً، وعلماً، وفضلاً، وسخاء)). وقال ابن أبي مريم: ((ما رأيت أحداً من خلق الله أفضل من الليث، وما كانت خصلة يتقرب بها إلى الله إلاّ كانت تلك الخصلة في الليث)). وقال أبو يعلى الخليلي: ((كان إمام وقته بلا مدافعة)).

وقال النووي في شرح صحيح مسلم مبيناً فضل الليث ومكانته: ((وأما الليث بن سعد رضي الله عنه فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته، وشهادة أهل عصره بسخائه وسيادته، وغير ذلك من جميل حالاته، أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، ويكفي في جلالته شهادة الإمامين الجليلين الشافعي وابن بكير ـ رحمهما الله تعالى ـ أن الليث أفقه من مالك رضي الله عنهم أجمعين، فهذان صاحبا مالك ـ رحمه الله ـ وقد شهدا بما شهدا، وهما بالمنـزلة المعروفة من الإتقان والورع وإجلال مالك ومعرفتهما بأحواله، هذا كله مع ما قد علم من جلالة مالك وعظم فقهه رضي الله عنه)).

قال محمد بن رمح: ((كان دخل الليث ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله تعالى عليه زكاة قط)). وقال قتيبة: ((لما قدم الليث أهدى له مالك من طرف المدينة فبعث إليه ألف دينار، وكان الليث مفتي أهل مصر في زمانه)). انتهى. وقد أفرد الحافظ ابن حجر ترجمته في جزء سماه (الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية)، قال: ورتبتها على ثمانية أبواب على عدد أبواب الجنة.

الثالث: يزيد ـ وهو ابن أبي حبيب ـ: قال الحافظ في (التقريب): يزيد بن أبي حبيب المصري، أبو رجاء، واسم أبيه سويد، واختلف في ولائه، ثقة فقيه، وكان يرسل، من الخامسة، مات سنة ثمان وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وقد قارب الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) بعض ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن سعد، وأبي زرعة، والعجلي، وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه يزيد بن أبي حبيب عن عقبة بن عامر مرسل.

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما يزيد بن أبي حبيب فكنيته أبو رجاء وهو تابعي. قال ابن يونس: ((وكان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليماً عاقلاً، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب بالخير)). انتهى.

الرابع: أبو الخير: قال الحافظ في (التقريب): مرثد بن عبد الله اليزني ـ بفتح التحتانية والزاي بعدها نون ـ أبو الخير المصري، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة تسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): ويزن بطن من حمير، سمع عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، وأبا عبد الله الصنابحي، وعبد الرحمن بن عسيلة عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وعبد الرحمن بن وعلة عند مسلم. روى عنه يزيد بن أبي حبيب عندهما، وجعفر بن ربيعة وعبد الرحمن بن شماسة عند مسلم.

وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن يونس: كان مفتي أهل مصر في زمانه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة، ووثقه يعقوب بن سفيان.

الخامس: صحابي الحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال في (التقريب): عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد ـ بالتصغير ـ بن سعد بن سهم السهمي، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليال الحرة على الأصح، بالطائف على الراجح، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، أبو محمد، بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة، له سبعمائة حديث، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): كان بينه وبين أبيه ثلاث عشرة سنة، وقال إنه أسلم قبل أبيه، وكان يسكن مكة ثم خرج إلى الشام وانتقل إلى مصر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق عندهما، وروى عنه مسروق، وأبو الخير مرثد، وحميد بن عبد الرحمن، وأبو العباس الشاعر، وغير واحد، قال يحيى بن بكير: مات سنة خمس وستين، وقائل يقول: سنة ثمان وستين وسنه اثنتان وتسعون.

وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري ستة وعشرين حديثاً، وقال في (تهذيب التهذيب): ((ولم يكن بينه وبين أبيه في السن سوى إحدى عشرة سنة، وأسلم قبل أبيه، وكان مجتهداً في العبادة غزير العلم)). وقال في (الإصابة): روى عن النبي  صلى الله عليه وسلم كثيراً، وعن عمر، وأبي الدرداء، ومعاذ، وابن عوف، وعن والده عمرو. وقال أبو نعيم: حدث عنه من الصحابة: ابن عمر، وأبو أمامة، والمسور، والسائب بن يزيد، وأبو الطفيل، وعدد كثير من التابعين.

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ((فأما عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فجلالته، وفقهه، وكثرة حديثه، وشدة ورعه وزهادته، وإكثاره من الصلاة والصيام، وسائر العبادات، وغير ذلك من أنواع الخير، فمعروفة مشهورة لا يمكن استقصاؤها فرضي الله عنه)).

 

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم ماعدا شيخ البخاري فلم يرو له منهم مع البخاري سوى ابن ماجه.

(2) رجال الإسناد الخمسة مصريون، فهو مسلسل بالرواة المصريين، والتسلسل بالرواة المصريين قليل. قال النووي في شرحه لهذا الحديث في (صحيح مسلم): وقد رواه مسلم عن شيخه محمد بن رمح عن الليث بمثل إسناده عند البخاري، قال: ((وهذا من عزيز الأسانيد في مسلم بل في غيره، فإن اتفاق جميع الرواة في كونهم مصريين في غاية القلة، ويزداد قلة باعتبار الجلالة)). ثم أخذ يبين جلالة كل منهم وفضله.

(3) ومن اللطائف في ذلك أن أربعة من أصحاب الكتب الستة وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، اتفقوا في رواية هذا الحديث سنداً ومتناً، وشيخهم جميعاً فيه قتيبة بن سعيد.

(4) ذكر الحافظ في (الفتح) أنه لا يعرف اسم الرجل السائل في هذا الحديث، فهو يعتبر من مبهمات المتن.

(5) في الإسناد ثلاثة كل منهم مفتي مصر في زمانه وهم: أبو الخير، ويزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد.

(6) أبو الخير ويزيد بن أبي حبيب تابعيان، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(7) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أحد العبادلة الفقهاء الأربعة في الصحابة وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على الحديث الثاني.

(8) من اللطائف في ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما ذكر من أن بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة.

 

المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) قوله (أي الإسلام خير؟): معناه أي خصال الإسلام خير؟ وخير: أفعل تفضيل حذفت الهمزة من أوله، وكما يرد أفعل تفضيل كما هنا يرد اسماً في مقابلة الشر، وقد جمع الله تعالى بينهما في قوله تعالى في سورة الأنفال:{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أُخذ منكم}، فالأولى ما يقابل الشر، والثانية أفعل تفضيل.

(2) قوله (أي الإسلام خير؟): مقول لقول محذوف، أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أي الإسلام خير))، وقد صرّح بذلك في (سنن ابن ماجه) حيث قال: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أي الإسلام خير؟. وتقدم في التخريج.

(3) قوله (تطعم الطعام...) الخ: قال الحافظ في (الفتح): هو في تقدير المصدر، أي أن تطعم ومثله تسمع بالمعيدي. انتهى. وقد ورد ذكر (أن) قبل الفعل في مسند الإمام أحمد كما تقدم في التخريج.

(4) قوله (تطعم الطعام): قال في (الفتح): ذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة و غيرها.

(5) قوله (وتقرأ السلام): قال في (الفتح): وتقرأ بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول، قال أبو حاتم السجستاني: تقول اقرأ عليه السلام ولا تقول: أقرئه السلام، فإذا كان مكتوباً قلت: أقرئه السلام، أي اجعله يقرأه. انتهى. ولعل هذا باعتبار الغالب، فقد ورد لفظ (أقرئه السلام) في غير المكتوب، كما في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((أقرئ أمتك مني السلام)) الحديث.

(6) قوله (على من عرفت ومن لم تعرف): قال في (الفتح): أي لا تخص به أحداً تكبراً أو تصنعاً، بل تعظيماً لشعائر الإسلام، ومراعاة لأخوة المسلم، فإن قيل اللفظ عام فيدخل الكافر والمنافق والفاسق، أجيب بأنه خص بأدلة أخرى أو أن النهي متأخر وكان هذا عاماً لمصلحة التأليف، وأما من شك فيه فالأصل البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص، وقال في موضع آخر: قال النووي: ((وهذا العموم مخصوص بالمسلم فلا يبتدئ السلام على كافر)). قلت: ((قد تمسك به من أجاز ابتداء الكافر بالسلام، ولا حجة فيه لأن الأصل مشروعية السلام للمسلم، فيحمل قوله (من عرفت) عليه، وأما (من لم تعرف) فلا دلالة فيه، بل إن عرف أنه مسلم فذاك وإلا فلو سلم احتياطاً لم يمنع حتى يعرف أنه كافر)).

وقال ابن بطال: ((في مشروعية السلام على غير المعرفة استفتاح للمخاطبة للتأنيس، ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه)). انتهى.

(7) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

1/ حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الخير ومعرفة الحق.

2/ الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.

3/ إثبات تفاضل خصال الإسلام.

4/ البحث عن الفاضل من خصال الخير لإيلائه مزيد العناية.

5/ إخلاص العمل لله رجاء مثوبته.

6/ استعمال التواضع والإرشاد إليه.

7/ الحث على إفشاء السلام وأنه من خير خصال الإسلام.

8/ الحث على إطعام الطعام وأنه من خير خصال الإسلام.

9/ فيه دلالة على إكرام الضيف.

10/ بذل السلام للمعرفة وغير المعرفة.

11/ أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه فقد يوقعه في الاستيحاش منه.

13/ الإرشاد إلى أسباب تآلف القلوب، واستجلاب ما يؤكد ذلك بين المؤمنين بالقول والفعل، من التهادي، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وغير ذلك.



بحث عن بحث