مراقبة الله (4-4)

 

 

الوقفة الرابعة: إن المؤمن في قبول القضاء والقدر على درجات، فمنها: الرضا بذلك وعدم السخط، وهذه هي الدرجة العالية في هذا الإيمان، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلّم لها ويرضى. اهـ(1).

وروى الترمذي عن أنس – رضي الله عنه – وحسّنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط)(2)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: (أسألك الرضا بعد القضاء)(3)، إن الذي يكون بهذه الدرجة العالية، فله الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(4)، قال بعض السلف: الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة.

أما الدرجة التي تليها، فهي الصبر على الابتلاء لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه، والصبر واجب حتم، وله فضل عظيم، وفيه خير كثير، وأجر جزيل، نفصله في المسائل التالية:

المسألة الأولى: الصبر هو: حبس النفس عن  الجزع والتسخّط، ومنعها عن محارم الله، وإلزامها بأداء فرائض الله، يدل عليه ما رُوي عن ابن عباس –رضي الله عنهما – أنه قال: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء فرائض الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى. اهـ كلامه - رضي الله عنه-.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى-: (الصبر حبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، وحبس النفس عن التسخط بالمقدور، فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء كما له عبودية في السراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب) اهـ كلامه- رحمه الله-.

المسألة الثانية: من خلال ما سبق يتبين أن الصبر على أقسام ثلاثة:

القسم الأول: صبر على طاعة الله - سبحانه وتعالى-، وذلك أن الطاعة تكليف من الله - سبحانه وتعالى- لعباده بأن يقوموا بهذه الطاعة خير قيام، فتحتاج هذه الطاعة إلى مجاهدة النفس والصبر على القيام بها والمحافظة عليها، والمداومة على فعلها، واستشعار الإخلاص والصدق أثناء أدائها، ومن ذلك: الصبر على توحيد الله تعالى، وعدم الإشراك به، وإخلاص العبادة له، وكذلك القيام بالصلاة، فرائضها ونوافلها، في أوقاتها مكتملة الأركان والواجبات، وغير ذلك من الطاعات، ويدخل فيه ما يعمله الفرد في وظيفته العادية، فالأستاذ يحتاج إلى صبر في أداء وظيفته على الوجه المطلوب، فيصبر على تلاميذه، ويتحمل التعب والمشقة في ذلك، والطبيب يحتاج على صبر في معايشة المرضى وعلاجهم، والوالدان يحتاجان إلى صبر في تربية أولادهم، وتنشئتهم على الصلاح والتقوى، والمرأة تحتاج إلى صبر في القيام بوظيفتها الحقيقية من تربية أولادها، والاهتمام بهم، وكذا أعمال بيتها، وخدمة زوجها، وطاعته، والداعية، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، يحتاجون إلى صبر في تبليغ دعوتهم إلى الناس، برفق وحكمة ولين، وفيما يقول ويعمل،  وهكذا، فجميع الطاعات تحتاج إلى صبر، وتحمّل، وعدم تضجر وقلق وتأفّف.

القسم الثاني: الصبر على معصية الله تعالى خوفا من الله تعالى، ورجاء ثوابه، وحياء منه - سبحانه وتعالى- أن يستعين بنعمه على معاصيه، فكثير من المعاصي والذنوب، وكثير من المخالفات تهواها النفس وترغبها، وكثير منها تلبي شهوة النفس، ألا ترى المغتاب يتلذذ بتجريح فلان وعلاّن؟ وألا ترى الزاني يلبّي شهوة نفسه الجامحة؟ وألا ترى النائم عن صلاة الفجر يلبّي رغبة النوم؟ وهكذا... فشهوات النفس ورغباتها في المعاصي كثيرة، ولكنها تحتاج إلى صبر ومجاهدة، فمن يصبر – مثلاً – على ضبط لسانه عن الكلام المحرّم فلا يغتاب، ولا يسعى بالنميمة، ولا يكذب، ولا يساعد بقوله ظالما، ولا يجادل بالباطل، ولا يسخر بالمسلمين، ولا يستهزئ بهم، ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يؤذي مسلما، فإنه بذلك يتّقي آفات لسانه، ويكون ممن صبر على ذلك، ومن يصبر على حفظ فرجه فلا يستعمله إلا فيما أحله الله، فإنه يأمن على سلامة عرضه، ويحفظه من الضياع، ومن يصبر على عدم أكل الحرام فلا يتعامل فيه، فإنه يسلم من تنمية جسده على الحرام، وهكذا.

القسم الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة، وذلك أن الإنسان في هذه الدنيا معرض لأن يصاب بمصائب كثيرة، سواء كان في نفسه أو أسرته أو ماله، وسواء كان ذلك بمرض، أو فقر، أو غنى مُطغٍ، وغير ذلك، فالمؤمن مطالب بأن يصبر على ما قدره الله تعالى عليه وقضاه، وأن لا يتسخط. فيكيف نفسه، ويحبسها عن التسخط، مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وأن يكف جوارحه عن العمل بالجزع.

إن هذا الصبر من مقومات الإيمان بالله - سبحانه وتعالى-، ذلك أنه إذا تيقنت النفس أن ما حصل لها إنما هو بتقدير الله - سبحانه وتعالى- وبقضائه، والله - جل وعلا- يبتلي عباده في هذه الدنيا بأنواع البلايا والمحن، وخير الناس كلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم إلى الله - عز وجل-، ومع ذلك ابتلي كثيراً، وأوذي كثيرا، وفي أحواله كلها – صلوات الله وسلامه عليه – كان صابراً محتسباً، بل كان راضياً بقضاء الله - جل وعلا-، شاكراً لنعمه.

المسألة الثالثة: اعلم أنه ورد ذكر الصبر في كتاب الله تعالى في أكثر من تسعين موضعاً، بصيغ مختلفة، تارة بالحث عليه، والترغيب فيه، وتارة بالترهيب من عدمه، وتارة بذكر جزاء الصابرين، وغير ذلك، وهنا استعرض بعضاً من ذلك:

يقول - سبحانه وتعالى- آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)(5)، ويقول - سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(6).

كما بيّن - سبحانه وتعالى- أن الصبر من صفات الرسل السابقين، فكانت نتيجة هذا الصبر حميدة، وعواقبه سليمة، يقول - جل وعلا-: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ)(7)، ويقول – سبحانه- في بيان عاقبة الصبر: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(8)، ويقول - جل وعلا-: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(9)، ويقول – سبحانه-: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)(10)، ويقول - جل وعلا- في معرض صفات المؤمنين ومالهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً)(11)، ويقول – سبحانه-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(12)، ويقول - جل وعلا- في عرض ما أعده الله لعباده الأبرار الصادقين الصابرين: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراًً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا)(13) إلى آخر الآيات.

ولأهمية الصبر وعظم شأنه فقد ربط الله - سبحانه وتعالى- بينه وبين الصلاة، ثاني أركان الإسلام، يقول - سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(14)، ويقول - جل وعلا-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(15)، كما جعل - سبحانه وتعالى- الصبر من أعظم ما يوصي به المؤمنون بعضهم بعضا، يقول - جل وعلا-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(16)، ويقول سبحانه: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)(17).

 

*      *        *

 

إن طاعة الله - سبحانه وتعالى-، والكف عن معاصيه، وما يحصل من أقداره المؤلمة، كل ذلك يحتاج إلى صبر مستمر، ولا يُنال أجر هذا الصبر إلا بالاستمرار عليه، ولذا علق النصر والظفر بالصبر، فالذي يصاب بمصيبة، أو يقدر عليه أمر من الأمور المكروهة للنفس، كمن يصاب بمرض، أو بموت قريب، أو بجائحة مالية، ونحو ذلك، فإذا لم يتذرع بالصبر فكأنه اعترض على قدر الله - سبحانه وتعالى-، وبالتالي قد يضعف إيمانه، ويتزعزع دينه، ويضعف يقينه بربه، وهنا يخسر شيئاً كثيراً من أمور الدنيا والآخرة، وهو لا يكسب شيئاً، إذ لا يستطيع أن يحيي الميت، أو يشفي المريض، أو يرد المال، ونحو ذلك.

المسألة الرابعة: السنة المطهرة مليئة بالنصوص النبوية الكريمة، القولية والفعلية التي جاءت بالحث على الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وهنا أورد بعضا منها:

ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري، -رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها)(18).

وما رواه مسلم أيضاً، عن أبي يحيى صهيب بن سنان – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)(19).

وروى البخاري ومسلم عن أبي زيد بن أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبّه وابن حبّه – رضي الله عنهما – قال: أرسلت بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ابني قد احتضر – أي: حضرته مقدمات الموت – فاشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال - رضي الله عنهم-، فرُفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيّ فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع – أي: تتحرك وتضطرب، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)، وفي رواية: (في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). متفق عليه(20).

وروى البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: (اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني، فإنك لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، متفق عليه، وفي رواية لمسلم: (تبكي على صبيٍّ لها)(21).

وروى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد(22).

وروى البخاري ومسلم، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس -  رضي الله عنهما-: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها) متفق عليه(23).

المسألة الخامسة: الصبر بأنواعه الثلاثة سمة صحابة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأخبارهم في ذلك كثرة ومشهورة، وكتب الحديث والسير وغيرها مليئة بذلك، ومن ذلك ما روي في قصة آل ياسر، فقد أخرج الطبراني – بسندٍ رجاله ثقات – والحاكم والبيهقي وغيرهم عن جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: (أبشروا آل عمار آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذَون في الله تعالى، فقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

وأخرج الحاكم وغيره عن عثمان – رضي الله عنه – قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء – بطحاء مكة – إذ بعمار وأبيه وأمه يعذبون في الشمس ليرتدوا عن الإسلام، فقال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا، فقال: (صبراً يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر).

وروي أن أول شهيدة في الإسلام أمّ عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قُبلها فماتت، رواه أحمد والحاكم وغيرهما.

ألا فلنقتدِ بهم، ولنأس بفعلهم، ولنمش على منهجهم..

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم                    إن التّشبُّه بالكرام فلاحُ

 


 


   (1)        نقلاً من: جامع العلوم والحكم 1/486.

   (2)        رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، ح 2398، ورواه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، ح 4021.

   (3)        هو قطعة من حديث صحيح مطوّل، رواه عن عمار بن ياسر: النسائي 3/54، 55 والحاكم في المستدرك 1/524، 525، وصححه ابن حبان.

   (4)        سورة النحل، الآية: 97.

   (5)        سورة الأحقاف، الآية: 35.

   (6)        سورة النحل، الآيات 126 – 128.

   (7)        سورة الأنعام، الآية: 34.

   (8)        سورة الرعد، الآيات: 22-24.

   (9)        سورة النحل، الآيتان: 41-42.

   (10)        سورة المؤمنون، الآيات: 109 – 111.

   (11)        سورة الفرقان، الآيات: 74-77.

   (12)        سورة السجدة، الآيتان: 23، 24.

   (13)        سورة الإنسان، الآيات: 5- 15.

   (14)        سورة البقرة، الآية: 153.

   (15)        سورة البقرة، الآيتان: 45، 46.

   (16)        سورة العصر، الآيات: 1-3.

   (17)        سورة البلد، الآية 17.

   (18)        رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب الوضوء، ح 223، 1/203.

   (19)        رواه مسلم في كتاب الزهد، باب المؤمن كله خير، 2999، 4/2295.

   (20)        رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يرخّص من البكاء في غير نوح 1/383 رقم الباب 32، رقم الحديث 1284، ورواه مسلم في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، 923، 2/635.

   (21)        رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب زيارة القبور 1/383، ح 1283، ورواه مسلم في كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، ح 626، 2/637.

   (22)        رواه البخاري في كتاب الطيب، باب أجر الصابر على الطاعون 4/1832، ح 5734.

   (23)        رواه البخاري في كتاب المرَى، باب فضل من يصرع من الريح 4/1809، ح 5652، ورواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، ح 4575، 4/1993.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



بحث عن بحث