مراقبة الله( 1 – 4 )

 

 

عن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما – أنه قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال لي: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح(1).

وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)(2).

هذا حديث عظيم جليل القدر، يحمل وصايا عظيمة، وفوائد كثيرة، ومسائل مهمة في العقيدة، والسلوك، والأخلاق، والآداب، وغيرها.

قال الإمام ابن رجب - رحمه الله-: (وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلّية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه) اهـ(3).

وفي هذا الحديث عدة فوائد، أعرضها على النحو التالي:

الفائدة الأولى: قول ابن عباس - رضي الله عنهما-: (كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال لي: (يا غلام إني أعلمك كلمات...) وفي هذا وقفتان:

الأولى: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه أمته، وتنشئتها على العقيدة السليمة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك المستقيم، فنلاحظ هنا أنه -  صلى الله عليه وسلم - حين ركب معه هذا الغلام الصغير لقّنه كلمات قليلة الألفاظ، كبيرة المعنى، لها آثارها ونتائجها في الدنيا والآخرة.

وهذه السمة – أعني الاهتمام بالجيل الناشئ، وتربيتهم على العقيدة السليمة – ينبغي أن تكون سمة المصلحين، والمربين، والمعلمين، فهم الذين تحمّلوا ميراث النبوة، وحملوا على عاتقهم مهمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هادي البشرية إلى الخير، ومنقذها من الضلالة، ومرشدها إلى صراط الله المستقيم.

لكن الملاحظ أن كثيراً ممن ولي شيئاً من أمر الإصلاح، أو التربية، أو التعليم، لا يعطي هذا الجانب حقه من العناية اللازمة، سواء كان مديراً، أو معلماً، أو موجها، فيصرف كثيرًا من الأوقات هدراً بدون فوائد تذكر على الناشئة، وهذا أمر لا ينبغي، حيث إن جيل اليوم هو قادة المستقبل، وموجهي الأمة، فالاهتمام به ورعايته في غاية الأهمية والضرورة.

الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا غلام، إني أعلمك كلمات...)، ففيه أهمية الأسلوب الحسن لتربية الناشئة، فالوصية التي سيوصي رسول الله -  صلى الله عليه وسلم - ابن عباس بها لها أهمية عظيمة، ومكانة كبيرة، ولذا يستجمع، ويلفت انتباهه إلى نفاسة الوصية التي سيدلي بها إليه، فيقول: (إني أعلمك كلمات)، كل هذا من باب التشويق، وإثارة الانتباه.

الفائدة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)، وفي رواية أخرى: (احفظ الله تجده أمامك).

وفي هذه الجملة عدة وقفات هي:

الأولى: في معنى قوله: (احفظ الله)، يقول العلامة ابن رجب - رحمه الله-:

"(احفظ الله) يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه، إلى ما نهى عنه، فمن يفعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله تعالى في كتابه، وقال الله - عز وجل-: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(4)، وفسّر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها "(5).

ففهم من هذا أن حفظ العبد لربه أن يقوم بأوامره وينفذها  كما أمره، فإذا كان من أوامر الله الصلاة وسائر أركان الإسلام كان من المسارعين في التنفيذ والاستجابة، ومن حفظ العبد لربه أن يتجنب نواهيه وزواجره، فلا يقربها، فإذا نهي عن ارتكاب المنكرات، وزجر عن اقتراف السيئات كالزنا، والسرقة، والإفساد، والكذب، والغيبة، والنميمة، ونحوها، فعليه أن لا يقربها، وأن يبتعد عنها.

ومن حفظ العبد لربه أنه إذا زل بزلّة، أو ارتكب ذنباً، أو خالف أمراً، من أوامر الله، أو عمل معصية من المعاصي فعليه أن يبادر بالتوبة، والإنابة، والاستغفار، والرجوع لربه، ومولاه، وخالقه، وموجده من العدم، والمنعم عليه، ليتم له حفظه ورعايته.

الوقفة الثانية: هناك عدد من النصوص القرآنية والنبوية أمرت بحفظ أشياء مهمة، أو المحافظة على بعض الأمور الشرعية، أستعرض بعضاً منها:

فمن ذلك: المحافظة على الصلاة، فقد أمر الله - سبحانه وتعالى- بالمحافظة عليها، فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)(6)، ومدح سبحانه المحافظين عليها بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)(7).

وروى الإمام أحمد – بإسناد جيد – عن حنظلة الكاتب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من حافظ على الصلوات الخمس: ركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله، دخل الجنة، أو قال: وجبت له الجنة، أو قال حرم على النار)(8).

ومن ذلك: المحافظة على الطهارة والوضوء، فالطهارة مفتاح الصلاة، وشرط لصحتها.

روى ابن ماجه والحاكم عن ثوبان –رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين(9).

ومما جاءت النصوص في المحافظة عليه: المحافظة على الأيمان، قال ابن رجب - رحمه الله-: (فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا، ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه)(10).

ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من المسلمين صار يستعمل الأيمان لداعٍ ولغير داعٍ، وبخاصة في البيع، والشراء، والخصومات، والجدال، واللجاج، ونحو ذلك، دون مراعاة لحقوق اليمين، ودون نظر للعقوبات والنتائج لما تخلفه من آثار وخيمة في الدنيا والآخرة، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)(11).

ومما تجب المحافظة عليه: الرأس وما وعى من الحواس التي منحها الله للإنسان من سمع، وبصر، وغيرهما، فلا يستعملها إلا في طاعة الله تعالى، وحفظ البطن وما حوى، وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى)(12).

وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع وصيانته من سماع المحرمات، فيحفظه العبد عن ذلك، ولا يستمع إلا لما أباحه الله تعالى له، كأن يستمع لقراءة القرآن، أو إلى درس علمي، أو موعظة، أو ذكر لله تعالى، أو كلام مباح، ويتجنب سماع الكذب، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، والفحش، والسباب.

ومما يتأكد تجنبه سماع الأغاني الخليعة، وما يتبعها، والتي تصد عن الله، وتقسي القلب، وتقرب من الشيطان، وتزين الفاحشة، وتلهي عن الطاعة، وتسهل المعصية... إلى غير ذلك من الأمور المشينة.

ومما يتضمن حفظ الرأس وما وعى: حفظ البصر عن النظر إلى المحرمات، واستعماله في الأمور المباحة، ومن ذلك عدم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من النساء الأجنبيات عن الإنسان، يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(13).

وكما يجب على الرجل صيانة بصره ونظره، فينبغي على المرأة أيضاً أن تحافظ على بصرها، فلا تطلقه في النظر إلى الرجال الأجانب، وهذا الحكم ينطبق على الصور الخليعة في الأجهزة المرئية، والصحف، والمجلات، ونحوها.

ومما يتضمنه حفظ الرأس أيضاً المحافظة على اللسان، فلا يطلق المرء للسانه العنان يتكلم بما شاء من خير أو شر، دون مراعاة لما ينبغي أن يتحدث به.

ومن ذلك عدم إطلاق لسانه في أمور الحلال والحرام دون التمعن والتثبت فيما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر خطير، فمن الملاحظ أن كثيراً من الناس نصب نفسه مفتياً، وأخذ يقول على الله تعالى برأيه، وبدون علم، ولنعلم أنه قد قيل: "من قال في كتاب الله تعالى برأيه فأصاب فقد أخطأ".

ومما تساهل فيه الناس كثيراً الاشتغال بالغيبة، والنميمة، ونقل كلام فلان وعلاّن، وصارت بعض المجالس ميدانا رحباً في أعراض المسلمين.

ومن ذلك أيضاً: التساهل في الكذب، وقول الزور، وبخاصة في مجال الخصومات، والبيع، والشراء، ونقل الأخبار دون تثبت، ونحو ذلك.

والحاصل أنه يجب على المسلم أن يحافظ كل المحافظة على لسانه، فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)(14)، وفي رواية  للبخاري: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)(15).

وروى الإمام أحمد وغيره من حديث أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حفظ ما بين فقميه (أي لحييه) وفرجه دخل الجنة) قال المنذري: ورواته ثقات(16).

وروى الترمذي – وحسّنه – وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه دخل الجنة)(17).

روى البخاري ومسلم وغيرهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)(18)، وفي رواية  الترمذي وابن ماجه: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسأً يهوي بها سبعين خريفا)[19].

الوقفة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (والبطن وما حوى..).

وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الشكوك والشبهات، وعن التعلق بالشهوات، وعن الإصرار على ما حرّم الله تعالى: يقول الله - سبحانه وتعالى-: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)(20)، ويقول سبحانه: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(21).

وروى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (.. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)(22).

ويتضمن حفظه من إدخال الحرام عليه من المآكل والمشارب، فيحرص كل الحرص أن لا يأكل ولا يشرب إلا ما أحله الله - سبحانه وتعالى-، وما كان من كسب حلال، فالله - سبحانه وتعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا، وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به.

روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا)(23)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(24)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)(25).

فمن خلال هذا نعلم أن الذي يتعامل بالحرام ويتعاطاه لم يحفظ الله تعالى، وقد عرّض نفسه لأمر خطير وعظيم.

ومما يحفظ به العبد ربه المحافظة على فرجه، فقد أمر الله - سبحانه وتعالى- بحفظ الفروج، وقد مدح الحافظين لها، فقال سبحانه وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)(26)، ويقول سبحانه وتعالى في معرض ذكره لصفات المؤمنين: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(27)، ويقول سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إلى أن قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)(28).

وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)(29)، وفي رواية للحاكم قال: (من حفظ ما بين لحييه، وما بين رجليه دخل الجنة)(30).

الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يحفظك)، وقوله: (تجده تجاهك)، وفي رواية: (تجده أمامك).

يفيد هذا النص أن من حفظ الله تعالى فإن الله - سبحانه وتعالى- تكفل بحفظه في الدنيا والآخرة، فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، قال ابن رجب: (حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:

أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، وذلك كحفظه في بدنه، وولده، وأهله، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(31)، قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه.

ومن حفظ الله تعالى في صباه، وفي صغره وشبابه، وحال قوته حفظه الله تعالى في حال كبره وضعف قوته، ومرضه، ومتّعه بسمعه، وبصره، وحوله، وقوته، وعقله، وذكر ابن رجب أن بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثبا يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.

والنوع الثاني: وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان)(32) انتهى كلامه - رحمه الله-.

وتفضيل ذلك أن الله - سبحانه وتعالى- تكفل لعبده المؤمن الذي حافظ على أوامره ونواهيه ولم يتعد حدوده بأن يحفظه في الدنيا من الشبهات التي تعتري الإنسان، والتي ربما يزيغ عن الصراط المستقيم بسببها، ويحيد عن جادة الحق فيضل مع الضالين، ويهلك مع الهالكين، من حيث يشعر أو لا يشعر، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثرت وتنوعت فيه الشبه ، وصار لها مروّجون ودعاةٌ يثيرونها ويكثرون الجدل فيها، بقصد أو بغير قصد، ومن استسلم لهذه الشبه فعليه خطر في دينه وإيمانه.

ومن حفظ الله أيضاً حفظه في هذه الدنيا من الشهوات المحرمة التي يزينها الشيطان للإنسان، ويسهل له الوقوع فيها، وبخاصة في هذا الوقت الذي تعددت فيه مصادر الشهوات ومواردها، فمن لم يحفظ الله تعالى لم يسلم من الوقوع فيها، ومشاركة الشيطان في ارتكابها، واقترافها، ولهذا كله كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بأن يحفظه، وكان يعلمه لأصحابه، روى ابن حبان في صحيحه، عن عمر – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه أن يقول: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تطع فيَّ عدوا ولا حاسدا)، أي لا تستجب دعاء عدو ولا حاسد فيّ(33).

ويقول ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: (إَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(34)، قال: (يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار)(35)اهـ.

وقال الله تعالى في شأن يوسف – عليه السلام – حيث حفظ الله تعالى في صغره وشبابه: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(36).

ومن حفظ الله لعبده أن يحفظه عند موته من الزيغ والهلاك فيتوفاه الله على شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما أحوج الإنسان في تلك اللحظات الحرجة إلى تلك الشهادة العظيمة التي يلقى بها ربه؛ لأن من لقي الله بها دخل الجنة، وحرم جسده على النار، روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)(37). وروى أيضاً من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار)، وفي رواية: (أدخله الله الجنة من أيّ الأبواب الثمانية)(38).

فمن حفظ الله تعالى في هذه الدنيا حفظه الله تعالى عند الموت فيتوفاه على الإيمان، وهذه نعمة عظيمة، ومنحة كريمة، ولو لم يكن إلا هي لكفت؛ لعظمها، وحاجة كل إنسان إليها في تلك الساعة العظيمة التي ينتقل فيها من دار الدنيا إلى دار الآخرة، لا أهل، ولا مال، ولا صاحب، ولا عيال، فليس معه إلا عمله، فإن كان صالحاً فليبشر بحفظ الله ورعايته له، وإن كان غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.

ومن حفظ الله تعالى أيضاً لعبده أن يحفظ بعد موته في القبر والحشر، وفي الدار الآخرة، ومن المعلوم أن الإنسان إذا مات يبادر أهله وذووه لقبره في تلك الحفرة الصغيرة الموحشة، يأتون به مسرعين، وما هي إلا لحظات ثم يفارقونه ويودعونه، تاركين إياه بمفرده، فيبتعد عنه الأهل والأصحاب، ويبقى معه عمله، فمن كان عمله صالحاً نظيفاً في هذه الدنيا، حافظاً لله - عز وجل-، فليبشر بخير منزل ينزله، فيكون هذا القبر روضة من رياض الجنة، ومن كان غير ذلك فليبشر بالذي يسوؤه، فستكون هذه الحفرة حفرة من حفر النار والعياذ بالله.

فمن من يضمن لنفسه حيلة في تلك الحال؟ ومن يضمن أن يكون قبره روضة من رياض الجنة؟ بل من يضمن لنفسه أن يخرج من هذه الدنيا لا له ولا عليه؟ إن الأمر جد خطير وعظيم، وإن الناظر في حياة كثير من المسلمين اليوم يجد أن الاستعداد للقبر، وضمته، ووحشته ضعيف، فكثير من المسلمين اشتغل بأموره الدنيوية، وتشاغل بها عن طاعة الله - عز وجل-، ولم يجلس مع نفسه لحظات يفكر فيها بمصيره، وأين سيؤول، ولم يحاسب نفسه، ويعرض أعماله على ميزان شريعة الله فما كان موافقا لها فيحمد الله تعالى، وما كان غير ذلك فيجدد التوبة لله - عز وجل- ويقلع عما يرتكبه من معاصي وآثام، فكثير من المسلمين تساهل في كثير من المحرمات، وارتكب كثيراً من المنكرات، ولم يعلم أن كل صغيرة وكبيرة عملها في هذه الدنيا سيجازى عليها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(39).

 


 


(1)     رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة 4/76، رقم الباب 22، ح2635.

(2)     رواه الإمام أحمد 1/482، ح 2664، وأبو يعلى في مسنده ح2556.

(3)     جامع العلوم والحكم 1/462.

(4)     سورة البقرة، الآية: 238.

(5)    

(6)     سورة البقرة، الآية 238.

(7)     سورة المعارج، الآية: 34.

(8)     رواه الإمام أحمد 5/332، ح 17881-17882.

(9)     رواه الإمام أحمد في مسنده 6/381، ح 21930، 5/282، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المحافظة على الوضوء 1/101، ح 277.

(10)      جامع العلوم والحكم 1/463.

(11)      سورة المائدة، آية: 89.

(12)      رواه الإمام أحمد في مسنده 1/387، والترمذي في كتاب القيامة 4/54 ح 2575.

(13)      سورة النور، الآيتان: 30، 31.

(14)      رواه الحاكم في المستدرك 4/357 وصححه، ووافقه الذهبي.

(15)      رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان 4/2032، ح 6474.

(16)      رواه الإمام أحمد 4/398، وفيه رجل لم يسم، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/298، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجال الطبراني وأبي يعلى ثقات، وفي رجال أحمد راوٍ لم يسم، وبقية رجاله ثقات اهـ.

(17)      رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان 4/31، ح 2521.

(18)      رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان 4/2032، ح 6477، ومسلم في كتاب الزهد، باب حفظ اللسان، ح 2998، 4/2290.

(19)      رواه الإمام أحمد في مسنده 2/355، 533، والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء من تكلم بالكلمة ليضحك الناس 3/381،  ح 2416.

(20)      سورة البقرة، آية: 235.

(21)      سورة الإسراء، الآية: 36.

(22)      رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/41، ح 52، ومسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، 3/1219.

(23)      سورة المؤمنون، الآية: 51.

(24)      سورة البقرة، الآية: 172.

(25)      رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضيلة الإنفاق، ح1015، 2/703.

(26)      سورة النور، الآيات: 30، 31.

(27)      سورة الأحزاب، الآية: 35.

(28)      سورة المؤمنون، الآيات 1 – 6.

(29)     تقدم تخريجه.

(30)      تقدم تخريجه.

(31)     سورة الرعد، الآية: 11.

(32)      جامع العلوم والحكم 1/465-468 بتصرف.

(33)      رواه ابن حبان في صحيحه، ح 934، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم 1/525.

(34)      سورة الأنفال، الآية: 24.

(35)      نقلاً من كتاب: جامع العلوم والحكم، لابن رجب 1/470.

(36)      سورة يوسف، الآية: 24.

(37)      رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً ح27، 1/57.

(38)      رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب الإمساك على الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان ح382، 1/289.

(39)      سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



بحث عن بحث