شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(14)

مراعاة المحدثين للعقل عند التحديث:

ثانيًا: وأما مراعاة المحدثين للعقل في قبول الحديث ورده عند التحديث ــ لا عند السماع والتحمل، فيبدو ذلك واضحًا في اشتراطهم العدالة، والضبط في صحة قبولهم للحديث، وتصحيحه.

ومن شروط العدالة بعد الإسلام: البلوغ والعقل، فلا يقبل حديث غير البالغ على الصحيح(1) ،ولا الجنون سواء المطبق والمنقطع إذا أثر في الإفاقة (2).

وأما الضبط فيعرف بمدى موافقته لأهل الحفظ، فإن وافقهم غالبًا، ولو أتى بأنقص لا يتغير به المعنى، أو في المعنى؛ فهو ضابط محتج بحديثه، وإن وافقهم نادرًا، وكثرت مخالفته لهم والزيادة عليهم فيما أتى به؛ فهو مخطئ مغفل، عديم الضبط، لا يحتج بحديثه، وإلى ذلك أشار الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -  فيمن تقوم به الحجة؛ فقال: " إذا شارك أهل الحفظ وافق حديثهم"(3).

ويقول أيضًا: "ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه، بأن الحديث المحدث به فيه ما لا يجوز أن يكون مثله، أو يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالة بالصدق منه"(4).

وقال الخطيب في الكفاية:"باب وجوب اطراح المنكر والمستحيل من الأحاديث"(5)

يقول الأستاذ عبد الرحمن المعلمي: وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بين البطلان، إلا وجدت في سنده واحدًا أو أثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة(6).

ويقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ــ رحمه الله تعالى ــ : "إن المحدثين الحفاظ المتوسعين في جمع الحديث جرت عادتهم على سماع ما يحدث به من الأحاديث وما لا يحدث به، لأنه ينفع في وجوه كثيرة من علوم الحديث، ولذلك قالوا وقرروا هذا القاعدة، التي عبر عنها الحافظ يحيى ين معين بقوله: "إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش" أي عند تحمل الحديث وتلقيه عن شيوخ الرواية، يجمعون منه ما استطاعوا عن كل شيخ، ولكن عند تحديثهم يفتشون فيما تحملوه من الأسانيد والمتون، فلا يحدثون إلا بالأسانيد المتصلة بالعدول الثقات الضابطين عن مثلهم، والمتون الخالية من الشذوذ والعلة.

وما تبين لهم من كذب أو وهم أو بلايا للرواة في الأسانيد، أو الشذوذ، أو علة في المتون يمسكون عن التحديث بها، ولا يذكرونها إلا مع البيان لما في تلك الأسانيد أو المتون من ضعف وشذوذ، وربما يحرقون هذه الكتب ويقطعونها، وكل هذا تجده مذكورًا في تراجم طائفة كبيرة من الرواة المجروحين.

ونسوق هنا نموذج من ذلك: جاء في الميزان، وتهذيب التهذيب في ترجمة "خالد بن يزيد بن أبى مالك الدمشقي "قال ابن أبى الحواري": سمعت يحيى بن معين يقول: بالشام كتاب ينبغي أن يدفن: "كتاب الديات" لخالد بن يزيد بن أبى مالك. لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة. قال أحمد بن أبى الحواري. قد كنت سمعت هذا الكتاب من خالد بن يزيد، ثم أعطيته لابن عبدوس العطار، فقطعه وأعطى للناس فيه الحوائج"(7)


 


(1) انظر : فتح المغيث 1/ 307 ، وتدريب الراوي 1/ 300 .

(2) المصادر السابقة .

(3) الرسالة ص371 .

(4) الرسالة ص 399 .

(5) الكفاية ص603 .

(6) الأنوار الكاشفة ص 6 ، 7 .

(7) ميزان الاعتدال 1 / 654 رقم 2457 ، وتهذيب التهذيب 3 / 126 رقم 232 ، وانظر : لمحات في علوم الحديث ص 174 ــ 176 .



بحث عن بحث