حديث (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم   أَكْثَرَ مَا يَتَعَوَّذُ مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ...)

 

(10) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم   أَكْثَرَ مَا يَتَعَوَّذُ مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا أَكْثَرَ مَا تَتَعَوَّذُ مِنْ الْمَغْرَمِ . قَالَ: « إِنَّهُ مَنْ غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ » . (1)

 

غريبُ الحديثِ :

المَغْرَم : هو الدَّين ،  أو أُريد به مَغْرَم الذنوب والمعاصي(2) ، والأول أرجح؛ لأن المعنى الثاني يلتقي مع المأثم .

المَأْثَم : مصدر من البطء والتَّأخر، يقال ناقة آثمة أي متأخرة .والإثم مشتق من ذلك؛ لأن ذا الإثم بطيءٌ عن الخيرِ متأخِّرٌ عنه (3).

فالمعنى: ما يجر إلى الذَّمِّ والعقوبة من المعاصي ، أو هو الإثم نفسه (4) .

من فوائد الحديث :

1/ كثرة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم  واستعاذته من المأثم والمغرم وهو الإساءة و التفريط في حق الله ، و حق العباد وقد عوفي منهما لأنه المعصوم المغفور له.

و قد كان يفعل ذلك ليلزم نفسه خوفَ اللهِ وإعظامَهُ، والافتقارَ إليه، وامتثالَ أمره في الرغبة إليه، التواضع والإخبات له، وكان تعوّذه تعليمًا لأمَّته لتقتدي به، وليسنَّ لهم سنَّته في الدعاء والضَّراعة وهي حقيقة العبودية، وكثرة إلحاحه صلى الله عليه وسلم  في المسألة مع تحقق الإجابة له لتحريض أمَّته على ملازمة الدعاء، وأنهم أحرى به على الدوام (5) .

2/ تفطُّن الصديقة عائشة – رضي الله عنها - إلى الدعوات التي يبتهل بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعجبها من المداومة على التعوذ بالله سبحانه من المغرم، لما تبادر إلى ظنها أن الدَّيْن يحرص عليه من يحب التوسُّع في الدنيا ولا يرضى بضيق الحال! وليس حال النبي كذلك . فكان سؤالها (مستفسرًا بدهشة) ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟!

فيأتي الجواب .. لأجل ما يفضي إليه الدَّين من الخلل في الديِّن (6).

3/ قال الطبري – رحمه الله - : المغرم (الدَّيْن) الذي استعاذ منه عليه الصلاة والسلام على أوجه ثلاثة:

1 إما فيما يكرهه الله سبحانه ثم لا يجد سبيلاً إلى قضائه .

2.  أو مستدين فيما لا يكرهه الله سبحانه ولكن لا وجه لقضائه عنده، لعجزه عنه، فهو متعرض لهلاك مال أخيه ومتلفٌ له .

3.  أو مستدين، له إلى القضاء سبيل، غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده ودأب على ذلك.

فهو عاصٍ لربه، ظالم لنفسه، آكل مال أخيه بالباطل، وكل هؤلاء لوعدهم يخلفون وفي حديثهم يكذبون. وقد صحت الأخبار عنه عليه السلام أنه استدان في بعض الأحوال، وثبت عن السلف استدانتهم مع كراهتهم له، للحاجة إليه مع نيَّة الوفاء والقدرة عليه .

وفي هذا الدليل الواضح على اختلاف الحكم بحسب اختلاف حال المدين والدين (7).

4/ الترغيب في السلامة من المَغْرم والاستعاذة منه، وبيان قبحه والمقصود به الدَّين المذموم صاحبه للأسباب السابقة .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يستعذ بالله من غلبة الدين كثيرًا (8) وقد نبَّه في الحديث على الضرر اللاحق بصاحبه وهو : التشبه بصفات المنافق الذي: «إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف ».

فإن الغريم ربما يكذب في وصفه حاله من العجز والفقر والحاجة تمهيدًا لإعذاره في التقصير والصبر عليه  ويعد في وقت معلوم في المستقبل بوفاء الدين فيخلف موعده لمطل الدائن، ولأنه قد يشغل به قلبه، ويذلُّ نفسه، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمَّته مرتهنة به (9) .فيسئ لصاحبه في الدنيا والآخرة .

5 / قال المهلب –رحمه الله تعالى - : فيه وجوب قطع الذرائع، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما استعاذ من الدين؛ لأنه ذريعة إلى الكذب، والخلف في الوعد مع ما يقع المدين تحته من المذلة، وما لصاحب الدين عليه من المقال (10) .

 


(1)  متفق عليه ، رواه البخاري (66 ح832) بلفظ: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يدعو في الصلاة: اللّهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْر، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيْح الدَّجال، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المحيَا وَفِتْنَةِ المماتِ، اللّهمّ إنّي أَعوُذ بِكِ مِنَ المأثمِ والمغْرمِ » .

فقال له قائلٌ : مَا أكثَر ما تَسْتعَيْذُ من المغْرَم ؟فقال: « إنَّ الرَّجُل إذا غَرِمَ حدَّثَ فكذَبَ، وَوَعَدَ فَأخْلَفَ » .و مسلم (769 ح589) بمثله

و اللفظ الوارد رواه النسائي (2437 ح5456).

(2)  لسان العرب (12/ 436)، مختار الصحاح (ص198)، النهاية (3/363) .

(3) معجم مقاييس اللغة (ص45) .

(4) المفهم (2/1034)، المنهـاج (17/ 33)، الفتح (11/406)، شرح الكرماني (5/185)، إرشاد الساري (2/492) .

(5) ينظر: المنهاج (17/32) و(5/91)، الفتح (2/406)، عمدة القاري (6/ 117)، إرشاد الساري (2/492)، عون المعبود (3/95)، فيض القدير (2/ 127) .

(6) ينظر: حاشية السندي (8/ 259) .

(7) ينظر بتصرف يسير شرح ابن بطال (6/ 521) .

(8) رواه النسائي (2439 ح5489) بسنده عن عبدالله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يدعو بهؤلاء الكلمات: « اللَّهُمَّ إني أَعُوذ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وشَمَاتَةِ الأَعْداءِ ».

و ابن حبان في صحيحه (3/303 ح1027)، وفي أوله زيادة: «أَنَّه كَانَ يَدْعُو اللهم اغْفرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وظُلْمَنَا وهَزْلَنَا وجِدَّنا وعَمْدَنَا وكُلُّ ذلك عِنْدَنَا، اللّهم إنِّي أَعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ العِبَادِ   وشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ » .

 والحاكم في مستدركه (1/713 ح1945)، و قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

(9)     ينظر: إكمال المعلم (2/543)، الفتح (2/405)، شرح السيوطي (3/57)، حاشية السندي (8/259)، عون المعبود (3/95) .

قال الصنعاني في سبل السلام (4/221) : فمن استدان دينًا [من غير حاجة] يعلم أنه لا يقدر على قضائه فقد فعل محرمًّا. وينظر: نيل الأوطار (2/330) .

(10)   شرح ابن بطال (6/520)، وينظر عمدة القاري (12/ 224) .

 



بحث عن بحث