الآدابُ النبويةُ للسائلة (4-7)

 

 

 

3 – خفض الصوت:

ينبغي للمرأة خفض صوتها – بلا خضوع وتغنج – عند سؤال أهل العلم استجابةً للآداب الربانية التي وصَّانا بها العليم سبحانه فقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ  )(1)، وقال سبحانه:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ) (2)

الغضُّ من الصوت فيه أدبٌ ولطف وتقدير للمخاطب، وتيسير للمطالب.

وقرع الأسماع بالنبرات العنيفة ، والعبارات المنفعلة، مؤشِّرٌ على خِفَّه العقل وحدّة الطبع، كما يفضي إلى إعراض السامع ونفور المخاطب.

4 – التلطُّف في البيان و الدعاء بالخير:

ومن محاسن الطَّلب تصدير السُّؤال بدعواتٍ طيبِّة، وابتهالاتٍ كريمة تثلج صدر العالم وتُفْرِحُ فؤاده، وتَزيده حماسةً للإصغاء والإجابة.

ومن خلال الدراسة الحديثية ألفيتُ أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كثيرًا ما تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله.

وتدعوه أم سُلَيم - رضي الله عنها - بعبارة رقيقةٍ مهذبةٍ لتكون أبلغ تأثيرًا وأحسن موقعًا وأكثر استعطافًا، فتقول: يا رسول الله! بأبي أنت وأمِّي إن لي خُويْصَة، أنس، خويدمك ادع الله له.

وتمهِّد هند بنت عتبة بن ربيعة - رضي الله عنها - لفتواها ببيان ما أنعم الله – عزَّ وجلَّ – عليها من الهداية للحقِّ، وامتلاء فؤادها بمحبَّة النبي صلى الله عليه وسلم وآله، بعد تشعبه في متاهات الكفر والضلال، وبغض الرسول صلى الله عليه وسلم وحب مذلَّته فتقول بامتنان:

يا رسول الله! والله ما كان على ظهر الأرض أهلُ خباء أحبَّ إلي أن يذلُّوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباءٍ أحبَّ إلي أن يَعِزُّوا من أهل خبائك، ثم قالت: إن أبا سفيان رجلٌ مسِّيك فهل عليَّ من حَرجَ أن أُطعم من الذي له، عيالنا..؟ (3)

إنَّ الكلمة الغليظَة، والرعونة في المسألة  والتحية والمحادثة ، من صفات اليهود، وهي دناءة وغطرسة وعيب لا يرتضى، ولا يقابل بالمثل، كما في لفظ رهطٍ من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، ففهمتها عائشة - رضي الله عنها - فدعت عليهم بالسام وزادت اللعنة! لشدة غيظها مما قالوا!

فهوّن الحبيب صلى الله عليه وسلم عليها الأمر، ونهاها عن مقابلة الإساءة بالسيئة قائلاً: « مهلاً يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله » .

5 / وضوح السؤال مع الاقتصاد فيه:

الكلام ترجمان الخاطر، والسؤال بريد السرائر، ورسولٌ يستخبر ما جهلته العقول وحارت فيه الضمائر.

وعلى السائل أن يقتصر منه على ما يبلغ به حاجته، ويستجلي مسألته، ويهتدي به إلى ضالته، من غير غموض في السؤال، ولا فضول في المقال. فإن الهذر والإبهام في الكلام يُملُّ السامع، ويُكِلُّ الذهن ويورد الزَّلل والعثار وخير الكلام ما قل ودل (4).

والأسئلة التي وافيتها في هذه الرسالة قد وفت بهذا الأمر وسلمت من عوارضه، ومنها:

قول السائلة: من أبرّ ؟ و: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟.

6 / ذكر ملابسات السؤال التي يحتاجها المفتي:

من حسن طرح السؤال التقديم له بوصف الحال المرتبطة بالفتوى ليتمكن المفتي من فهم المراد فهمًا تامًا ومن ثم بيان المقصود بيانًا شافيًا.

مثاله: قول السائلة: إن ابني يأخذه جنون عند غدائنا وعشائنا فيخبِّثُ علينا فادع الله له.

و: إنيّ أنكحتُ ابنتي، ثم أصابها شكوى، فتمزّق رأسها، وزوجها يستحثني بها، أفأصل رأسها؟.

و: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟

7/ الاستفادة من القرائن المصاحبة لحال المفتي:

يجدر بالسائل أن يكون حاضر الفهم، يقظ الذهن، منتبهًا لحال المفتي، حفيًّا بأفعاله وأخلاقه ومآثره.

فيحرص على التفقه من علمه وعمله وعبادته، والاسترشاد بقوله وسلوكه وهيئته.

وإن التبس عليه أمر، أو استشكل عليه حكم فرَّ من الظنون والشكوك وتنازع الأراء، ولاذ بسؤاله لإدراك الحق، والتزوُّد من العلم.

مثال ذلك:

قول عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله؟! ودخل عمر فلم تهتش له ولم تباله؟! ودخل عثمان فجلست... » الحديث.

وقولها:

حينما رأت تفطُّر قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تطيل القيام وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخرّ؟!.

·  وإن كان في طرح السؤال – مباشرة – جرءةٌ قد تعكِّر صفو المسؤول، أو تحرجه فالحكمةُ التدرُّج في عرضه لنيل المراد بلطف وأدب وأسلوب سائغ.

مثاله:

إدخال عائشة - رضي الله عنها - يدها في شعر النبي صلى الله عليه وسلم للتأكُّد من جفافه وأنه لم يضاجع إحدى ضرائرها.

فيسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أجاءك شيطانك؟ فتقول: أولي شيطان؟! فيجيبها نعم!

وهنا لمع سؤال محيِّر لا يليق بها ذكره، فترُجئُه إلى حين يسوغ نشره، ثم تمهِّد له بتوسيع دائرة السؤال وتمديد نطاقه ليشمل كل الناس بمن فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.

فتقول متسائلة: ولكلِّ عبدٍ شيطان؟

فيقول: « نعم ».

لقد حانت الآن الفرصة الملائمة واللحظة المناسبة لتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم استقلالاً، لا كما سلف ضمنـًا، بلا حرج أو تردد.

فتقول باستغراب: ولك شيطان؟! فيردُّ عليها: « نعم، ولكن ربّي أعانني عليه حتى أسلم»


(1) سورة لقمان، من الآية: 19.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 32 .

(3) متفق عليه، رواه البخاري – واللفظ له –(596 ح 7161). ورواه مسلم (982 ح 1714).

(4) للإستفادة يراجع كتاب: أدب الدنيا والدين (ص236) وما بعدها.



بحث عن بحث