أخوة النسب صلة وبر وقفات وتأملات

د. محمد بن عدنان السمان
المدير التنفيذي لشبكة السنة النبوية وعلومها

 

إن الله سبحانه كفل من الحقوق ما تستقيم به حياة المرء المسلم، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم من الواجبات والصلات ما يحقق للناس السعادة البشرية.

وإن من أعظم الحقوق وأبرز الواجبات ماقرره الإسلام من صلة الرحم قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: من هم الأرحام وذوو القربى فأجاب سماحته رحمه الله: الأرحام هم الأقارب من النسب من جهة أمك وأبيك، وهم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال والأحزاب: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ) [الأنفال:75]، وأقربهم الآباء والأمهات والأجداد والأولاد وأولادهم ما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الإخوة وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، وقد صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لما سأله سائل قائلاً: من أبر يا رسول الله؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أباك)، ثم الأقرب فالأقرب. [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه]، والأحاديث في ذلك كثيرة.

 ومن هذا المنطلق سيكون الحديث عن صنف من هذه الأصناف الواجب صلته بل تأتي مرتبته في الصلة في أعلى المراتب وأجلها ومع ذلك تجد فيه نوع تفريط من بعض المسلمين  هداهم الله، حديثي إليكم معاشر الأحبة سيكون عن أخوة النسب من خلال الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: من هو الأخ؟

 الأخ قد يكون شقيقاً إذا كان من الأب والأم، أو قد يكون من أحدهما أخ لأب أو أخ لأم والأخت كذلك، قال تعالى (...وإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ).

الوقفة الثانية: عظم حق أخوة النسب في الإسلام:

لقد رعى الإسلام هذا الحق العظيم، جاء في الحديث الصحيح عن أبي رِمثة رضي الله عنها قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك) [رواه أحمد والحاكم]..

إذن حق إخوة النسب يأتي في منزلة عالية رفيعة، والبرّ مع الخَلْق إنما يكون بالإحسان في معاملتهم، وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البرّ حسن الخلق) رواه مسلم، وحسن الخلق: هو بذل الندى، وكف الأذى، والعفو عن المسيء، والتواصل معهم بالمعروف، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "البرّ شيء هيّن: وجه طليق، وكلام ليّن".

الوقفة الثالثة: كيف يؤسس بر أخوة النسب؟

هذا الحق حق الأخ والأخت من الصلة والبر، يُؤسس ابتداءً من الأسرة، فالأب والأم ينبغي عليهما التأكيد على هذا الحق فغرسه في نفوس الأبناء البنين والبنات منذ الصغر كفيل بإذن الله أن يكون هذا البر ملازماً لهم في حياتهم.

عليه فإن تفضيل بعض الأبناء على بعض أو منح أحدهم أو بعضهم  ميزة ليست لإخوانه أو أخواته وخاصة إذا تعددت الزوجات - أعني أمهات هؤلاء الأبناء -، هذا كله مظنة كبيرة لإفساد العلاقة بينهم، ولقد فطن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا الداء فقد أتاهُ بشيرُ بنُ سعدٍ أبْو النعمانِ t فقالَ يا رسولَ اللهِ: إنَّ أمَّ هذا طلبتْ منِّي أنْ أنحِلَ ابنهَا نِحلةً وأشهدَكَ عليَها فقالَ -صلى الله عليه وسلم- : (أكلَّ ولدِكَ أعطيتهُمْ مثلَهْ) قالَ: لاَ، قالَ: (أتحبُ أنْ يكونُوا لك في البِرِّ سواءً؟ قالَ: نعم، قالَ: فلَا إذا) [أخرجَهُ مسلمٌ]، وفي لفظٍ قالَ لهُ: (لا تُشْهدْنِي علَى جَوْرٍ) [أخرجَهُ البخاريُ ومسلمٌ].

 فدل هذا الحديث على تحريم تفضيل الأولاد بعضهم على بعض بهبة أو عطية دون مسوغ شرعي كطلب علم ونحوه،لأن هذا التفضيل يسبب القطيعة بينهم وبفضي إلى بغض بعضهم بعضاً ومفارقة بعضهم بعضاً وحقد بعضهم على بعض، والعدل بينهم يسبب التئامهم وجمع كلمتهم.

ويجد بعض الآباء لأنفسهم أعذاراً ليست مقبولة في ميزان الشرع فيقولُ بعضهم: هذا ابنٌ يسمعُ ويطيعُ، وهذا بارٌ لي وصاحبُ أدبٍ وخلق رفيعٍ، وهذا قريبٌ لي، وأولئِكَ بعيدُون عنِّي، هذا نافعٌ لِي في حاجاتِي، وأولئك مشغولونَ عنَ مُتطلَّباتِي، نعمْ قد يكونُ مثلُ هذا العملِ، لكنْ ليستِ التفرقةُ هِي الحَلُّ، فلا يُعالَجُ الخطأُ بالخطأِ، ولا نُحدثُ قطيعةً بقطيعةٍ.

حسد الأخوة من الآفات التي تصيب كثيراً من الأسر، حيث ينتج هذا الحسد عند ظهور النجابة والنجاح لدى أحد الأبناء، فينتج عنه حباً زائداً وتفضيلاً لذلك الابن في الحب والمعاملة عن بقية إخوته، وهذا ليس بالخفي لدى الأبناء، فهم يستشعرون كل همسة وحركة يقوم بها الأب تجاههم، ثم يضعون هذه الهمسات والحركات في ميزان المقارنة ليكتشفوا فروقات التعامل التي تكون حقيقية في بعض الأحيان وغير حقيقية في أحيان أخرى، وهذا ما باح به إخوة يوسف عليه السلام وهم يضعون تصرفات والدهم تجاه ولده وأخيهم (يوسف عليه السلام) في ميزان المقارنات الأخوية، وقد تكون هذه التفضيلات حقيقية وقد تكون غير حقيقية، المهم أنهم وجدوا أن هناك فرقاً، هذا الشعور ولد لديهم داء  الحسد الذي وصل إلى ماتحمد عقباه كما جاء في القرآن الكريم: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ، قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فاعلين)، ولعل حب بعض الولد عن البعض الآخر فطرة لا يستطيع أن يقاومها الأب، غير أن على الأب أن يكتم الحب الزائد لبعض أولاده، ولتكن معاملته الظاهرة سواء بين أبنائه، إذا أراد أن ينتزع داء الحسد من بينهم، وأن يزرع المحبة والألفة تجاه بعضهم البعض، ثم إن بعض َربَّما يحمله على التفضيلِ حُبُّ إِحدَى الزوجتينِ، أو إحدى الزوجات فُيغدِقُ على أولادِهَا ويَحجبُ الآخرينَ فيكون سبباً في إيغال صدروهم على بعض في حياته وبعد مماته والقصص الدالة على ذلك لا تكاد تحصى.

 وربَّما حَرَمَ البناتِ، لأنَّ الذكورَ ذَوُوا التزاماتٍ، وحتى لا يذهبَ مالُه لأزواجِهِن، ويمتلِكَ أولادُ غيرِهِ بزعْمِه مِيراثَهُنَّ. وهذا تَعَدٍّ على حدودِ اللهِ، فالبناتُ لَهنَّ حقُّ في الميراثِ قد فَرضَه اللهُ لهنَّ، فمنْ حَاولَ حِرْمانَهُنَّ أو تجْزِئةَ الأموالِ بالوقفِ والوَصَايا بقصد حرمان البنات، فهو عاصٍ للهِ ورسولهِ e، ظالمٌ لنفسِهِ وأولادِه.

الوقفة الرابعة: أخوة النسب في الكتاب والسنة:

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى أخوة النسب في كتابه الكريم، وإن من أعظم البر بالأخ مادعا به موسى الكليم عليه السلام ربه بأن يمن عليه بشقيقه هارون عليه بأن يجعله وزيراً له ومعيناً له في دعوته، فعندما كلف الله موسى عليه السلام بدعوة فرعون، دعا موسى عليه السلام ربه (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً) (35)، فجاء الجواب من الله جل جلاله (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (36).

فانظروا يارعاكم الله كيف دعا موسى عليه وسلم، وكيف وصف هارون عليه السلام بهذه الصفة صفة الأخوة، حتى أنه لما باشرا هذه الدعوة وذلك التبليغ وانتكس من قومهما من انتكس كان من دعاء موسى عليه السلام {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }الأعراف151.

وإن الناظر إلى كتاب الله جل جلاله والمتأمل فيه يجد أن جُل الآيات التي تحدثت عن موسى وهارون عليهما السلام مجتمعيْن كانت تُقرن بصفة الأخوة وكأنه تأكيد من الله جل جلاله على العناية بهذه الصلة العظيمة.

ويُلمس هذا المقصود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه  يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم فإنها عمرة متقبلة) رواه البخاري، فكان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن ينعته بزوجه أ, يسميه باسمها المجرد، وهكذا لما رأى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في المنام كأن في يديه سرقة من حرير،  لا يهوي بها إلى مكان في الجنة إلا طارت به إليه، فقص الرؤية على أخته أم المؤمنين  حفصة رضي الله عنها، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أخاك رجل صالح.

فوصفه صلى الله عليه وسلم بصفة الأخوة.

الوقفة الخامسة: من حقوق أخوة النسب:

إن هذه الصلة العظيمة صلة أخوة النسب حقها كبير جداً، وهي ركيزة أساسية لصلة الرحم القائمة في الأساس على وحدة العقيدة الدينية، فكل ماينبطق من حقوق وواجبات من حقوق وواجبات للأخوة العامة هي من باب أولى أن تكون بين إخوان النسب، فهذه الأخوة صلة ورحم وبر بالإضافة إلا أنها أخوة دينية وثيقة.

وإذا كان بر إخوة النسب من صلة الرحم التي عرفها الإمام ابن كثير رحمه الله بقوله:

(وصلة الأرحام وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال).

الصلة بين الأخوة والأخوات تكون بتفقد الأحوال، والاتصال والسؤال، باحترام وتوقير كبيرهم، تكون بالإنفاق عليهم بالمال للمحتاج من المقتدر وبالعون عند الحاجة، في الحديث الصحيح  الذي أخرجه الامام ابن حبان وغيره (يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك فأدناك).

الصلة تكون بمشاركتهم في أفراحهم بتهنئتهم ومواساتهم في أحزانهم والوقوف معهم وبقربهم.

الصلة تكون بالتناسي عن الزلات والصفح عن الخطيئات تكون الصلة بدفع الضرر وبطلاقة الوجه وتحمل قطيعتهم إن وجدت، وذلك يكون إذا كانوا أهل استقامة، أما إذا كانوا فساقاً أو أصحاب معاصٍ ظاهرة فعلى الواصل بذل الجهد في وعظهم، ولا يسقط صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب إلى أن يعودوا إلى الطريقة المثلى، سُئل الإمام أحمد: رجل له إخوة وأخوات بأرض غصب ترى أن يزورهم؟ قال نعم يزورهم ويراودهم على الخروج منها , فإن أجابوا إلى ذلك وإلا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم.

الوقفة السادسة: التحذير من القطيعة بين الإخوان في النسب:

إنك لتعجب أشد العجب عندما تسمع أو ترى أن هناك قطيعة بين أخ وأخيه أو بين أخ وأخته أو بين أخت وأختها، أيها المسلمون ليس هناك مبرر مقبول مهما عظم من هذه القطيعة، ألم يقرع سمع هذا القاطع أو تلك القاطعة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى. قال فذلك لك)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ }[محمد:23])) رواه البخاري.

فالمسلم عندما يصل أرحامه (عندما يصله إخوانه وأخواته)  يقوم بأمر أوجبه الله تعالى عليه، يطلب به الأجر والمثوبة من ربه لا من أخيه أو أخته لذلك فالصلة الحقيقية هي التي تبتدئ بالإحسان دون انتظار مكافئ من القول أو الفعل صادر من ذوي القربى وأعظم منها الصلة التي تستمر على الرغم من إساءة ذوي القربى ومقابلة إساءتهم بالإحسان روى البخاري عن عبدالله بن عمرو عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال) ليس الواصل بالمكافي ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمهُ وصله(.

 



بحث عن بحث