حلاوة الإيمان

الخطبة الأولى

الحمد لله جعلنا من أهل الإيمان ومن أتباع ملة الإسلام، أحمده سبحانه وأشكره فهو الكريم المنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنعم علينا بنعم كثيرة وآلاء جسيمة أعلاها نعمة الإسلام والإيمان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم على طريق الإيمان، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسامكم على النار لا تصبر ولا تقوى.

أيها المسلمون: على الإنسان في هذه الحياة أن يحدد منهجه في التعامل مع ربه جل وعلا، وفي التعامل مع خلقه.

في حديث عظيم رواه الإمام البخاري وغيره يحدد لنا أعلى مراتب هذه العلاقة سواء مع الله جل وعلا أو مع الخلق؛ فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

أيها المسلمون: جمل ثلاث غاية في البيان، وإيجاز في العبارة، ودلالة أعظِم بها من دلالة.

في الجملة الأولى يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى مجالات العلاقة مع الله سبحانه، وفي الجملة الثانية يحدد أعلى مجالات العلاقة مع الإنسان أو مع الخلق، وفي الجملة الثالثة يبين جل وعلا عمق الإيمان والعلاقة معه ويحذر من العودة إلى ضدها مرة أخرى.

أيها المسلمون: نقف في هذه الخطبة مع الجملة الأولى لعظمها وعظم دلالتها وكبر معناها، ولأنها إذا تحققت تقود الإنسان إلى أقصر السبل والطرق التي توصله إلى رضا الرحمن ومحبته، وإلى أعلى ما أعده الرحمن لعباده المؤمنين.

يقول عليه الصلاة والسلام: « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان»، نعم للإيمان حلاوة، وللإسلام طعم لا يتذوقه إلا من أنعم الله عليه بهذا الإيمان وبهذا المنهج العظيم، ولذا يقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: « ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا»، فللإيمان طعم، وهذا الطعم له حلاوة يجدها المؤمن عندما يعمل بعواملها، وهذه الحلاوة ليست كالحلاوات الحسية طعمها يزول بثوان أو بدقائق، ويحسها لحظات ولا تستقر معه، بل إن بعض حلاوت الدنيا تعود بالويل والثبور على صحة الإنسان أو على عقله أو منهجه.

أيها المسلمون: أعلى هذه العوامل أن تكون محبة الله ومحبة رسوله أعظم المحاب كلها، ومحبة الله عباد الله أعظم أعمال القلوب بل هي القائد لأعمال القلوب كلها والتي تحرك الإنسان في جميع أقواله وأعماله وسلوكه.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "الإنسان في هذه الحياة كالطائر يطير بجناحيه؛ الجناحان هما الخوف والرجاء، أما رأس الطائر فهو محبة الله جل وعلا التي تقود هذا الطائر إلى طريقه الصحيح، والإنسان المؤمن عندما يجعل محبة الله هي القائدة له في جميع أقواله وأعماله وسلوكه فقد حدد الطريق الصحيح، ولذلك يقول جل وعلا: ﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبًا لله ﴾[البقرة: 165].

فيقرر سبحانه وتعالى أن هناك من الكفار من يقدم محبة الناس على محبة الله، أما الذين ءامنوا فهم أشد حبًا لله، ولذا كان من دعاء النبي : « اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي، ومن الماء البارد». فأعلى ما يطلب المؤمن محبة الله جل وعلا.

أيها المسلمون: وليست هذه المحبة دعوى يدعيها الإنسان، بل هي عمل قلبي كبير يستقر في قلب الإنسان ويَظهر أثر هذا العمل على سلوكه وأقواله وجوارحه وتعامله مع شؤون الحياة كلها، فمن أحب الله حقيقة عظّم شعائره سبحانه وتعالى، ومن أحب الله حقيقة وقف عند حدوده واستجاب لأوامره ولم يستجب لعقله وهواه ولم ينظر إلى عادات الناس وتقاليدهم أو يلتفت إلى الخوف منهم أو مجاملتهم، وإنما يقدم ما تقتضيه محبة الله على كل شيء ولو كان في ذلك تقديم نفسه أو ماله أو شعوره أو أعماله أو ولده أو والده أو غير ذلك من أمور الدنيا.

ومن أحب الله حقيقة فعليه أن يتعرف على الله حقيقة بأسماءه وصفاته فيعلم أنه الملك الخالق الرازق الإله المعبود المتصرف الذي يعلم كل شيء، يعلم السر وأخفى، ويطلع على القلب والنجوى، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، هو المتصرف في هذا الكون كله يقول للشيء كن فيكون سبحانه وتعالى، يتعرف على إلهه ومعبوده حيث كلَّفه في هذه الحياة بتكاليف يجب أن يقوم بها، ويحذر أن يحيد عنها قيد أنملة، يتعرف على الله جل وعلا بأنه الغفور الرحيم الرحمن الرؤوف الذي يحب عباده المؤمنين ويرأف بهم، ويكون معهم مؤيدًا ومعينًا وظهيرًا ونصيرًا أينما كانوا فوق كل أرض وتحت كل سماء.

يتعرف على مولاه سبحانه وتعالى بأنه شديد العقاب ويغار على حرماته، وإذا أخَذ أَخَذ أخْذ عزيز مقتدر سبحانه وتعالى.

يتعرف على الله سبحانه وتعالى بأن يقرأ كلامه بتدبر وتمعن يرى أوامره فيعمل بها، يقرأ نواهيه فيجتنبها، يقرأ القصص فيعتبر بها، يقرأ ما جرى للأمم الغابرة فيعتبر بها، ويقرأ بأن السعادة في هذا العمل، يقرأ بأن الدار الآخرة كائن لا محالة، وبأن الناس ينقسمون إلى قسمين إما سعيد تمام السعادة وإما شقي والعياذ بالله، وعلم أن السعادة في العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه وأن الشقاوة في تركها.

يتعرف على مولاه بأنه الذي أنعم عليه بجميع النعم من نعم الجوارح؛ السمع والبصر والفؤاد واللسان والعقل وغيرها، ﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ [الذاريات: 21]، بل أنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى من مال ورزق وولد وزوجة ومسكن وغيرها.

أيها المسلمون: من أحب الله بهذه المحبة أحبه الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يسعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وحينئذ يجد حلاوة الإيمان، فالله سبحانه كما أخبر في كتابه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المتطهرين، ويحب المؤمنين، كما أنه سبحانه يبين أن من حاد عن هذا المنهج فلا يحبه الله، فالله سبحانه لا يحب المفسدين، ولا يحب الظالمين، ولا يحب من كان مختالا فخورا، ولا يحب العاصين، وإنما يحب عباده المؤمنين.

اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الوالد والولد، ومن الناس أجمعين، ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم اجعل حبك يستقر في قلوبنا وفي أعمالنا، اجعل حبك قائدًا لنا يا رب العالمين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، وما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

!!!

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا جل وعلا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله: إن هذه المحبة لا ينبغي أن تكون دعوى يدعيها الإنسان وأعماله وأقواله وسلوكه وتصرفاته تخالف مقتضى هذه المحبة، فهذا جَمَع بين سيئتين؛ سيئة الدعوى الكاذبة وسيئة العمل الكاذب، فمثل هؤلاء لا يحبهم الله سبحانه وتعالى، ولذلك من كان يحب الله حقيقة فليعمل بأسباب حبه سبحانه وتعالى، ومن ذلك ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: « من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته».

أيها المسلمون: من كان يحب الله فليعظم الله، ولا يشبهه بأحد من المخلوقين، ويعظم كلامه ويقف عنده، ويستجب لأوامره.

من كان يحب الله فليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ [آل عمران: 31].

من كان يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقف عند ما صح من حديثه صلى الله عليه وسلم كما كان صحابته رضوان الله عليهم، بل بلغ ببعض الأئمة أنه لا ينطق بحديث إلا عندما يتوضأ ويحسن جلسته، فيقف عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان عند الإمام مالك رضي الله عنه يحدث في المدينة.

من كان يحب رسول الله، فلا يستهزئ بأقواله وأعماله.

انظروا إلى تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أحدهم: "إن الناس يفعلون كذا" يقصد أنهم يعملون بقول أبي بكر وعمر، فقال له عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أقول لك: قال رسول الله، وتقول: قال أبو بكر وعمر". هكذا كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتباع أوامره وفي اجتناب نواهيه.

ومما يُظهر تعظيم الرسول وصحابته لله ومحبتهم له أنه كان إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا».

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث رجلا على سرية يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بــ ﴿ قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص: 1] فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟»، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبه».

هكذا كان تعظيم الصحابة لله سبحانه وتعالى، ومن ثم لأوامره واجتناب نواهيه، ومن ثم تعظيما لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأقواله ولأعماله.

اللهم احيينا على حبك، اللهم وابعثنا عليه واجعلنا من أحبابك يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وثبتنا على ذلك يا رب العالمين.

ثم صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى كما أمركم الله جل وعلا في محكم كتابه فقال: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

!!!



بحث عن بحث