وقفات مع حديث « اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».

الخطبة الأولى

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده سبحانه وأشكره فهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن على نهجهم يسير، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسامكم على النار لا تصبر ولا تقوى.

أيها المسلمون: من خير الوصايا بل هو خيرها ما جاء في كتاب الله تعالى وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها النجاة والفلاح والفوز في الدنيا والآخرة، ووصية من تلك الوصايا رواها لنا الإمام الترمذي رحمه الله بسند حسنه عن أبي ذر رضي الله عنه وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن». هذه الوصية الجامعة تنظم العلاقة بين الفرد وبين ربه جل وعلا، كما تنظم العلاقة بين الفرد وبين الناس، هذه الوصية العظيمة من قام بها وعمل بها أفلح وفاز في الدنيا والآخرة؛ لأنه نهج النهج السليم في الوصول إلى الله جل وعلا، ونظم العلاقة السليمة فيما بينه وبين العباد، في معالم ثلاث فقط: معلمان للتعامل مع الله سبحانه ومعلم للتعامل مع الخلق، أما المعلم الأول وهي الوصية الجامعة:  « اتق الله حيثما كنت» وهي وصية الله للأولين والآخرين، تقواه سبحانه وتعالى، وذلك بأن يضع العبد بينه وبين النار وقاية.

 وقال عنها طلق بن حبيب: " التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عذاب الله".

هذه هي التقوى يمثلها العمل بجميع أوامر الله سبحانه والانتهاء عما نهى عنه جل وعلا، فأعظم التقوى العمل بالواجبات وترك المحرمات، وكلما زاد عمل المسلم بالمستحبات زادت تقواه، وكلما ابتعد عن المكروهات زادت كذلك تقواه.

أيها المسلمون: إن أعظم التقوى توحيد الله جل وعلا وعبادته، والعمل بالأركان الخمسة، فإحسان الوضوء والصلاة ودفع المال للفقراء والمساكين وصرفها في أعمال البر والصيام والحج والعمرة وبر الوالدين والإحسان إلى الجار كل ذلك من التقوى، كل طاعة عباد الله هي من التقوى، وذاك الذي يخشى الله فامتنع عن الكبائر والصغائر من المحرمات ذلك من التقوى، وهكذا عباد الله يكون العبد من زمرة المتقين.

هذه التقوى عباد الله هي المنجية من النار، هي المكفرة للسيئات، هي الرافعة للدرجات، هي المدخلة إلى الجنان، هي المقربة إلى المولى الرحمن، هي الحالَّة لجميع الأزمات، هي المغنية من الفقر، ) ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب( [الطلاق: 2-3]  يجعل له مخرجا من الفقر والهموم والأحزان والأمراض والمصائب والمضائق، كل ذلك يفتح بابه التقوى، )ويرزقه من حيث لا يحتسب( [الطلاق: 3]  لا بتخطيطه، ولا بذكائه، ولا بجده وحرصه، ولا بتركه للحلال وذهابه للمحرمات، إنما إذا اتقى الله جل وعلا رزقه من حيث لا يحتسب، من حيث لا يخطط، من حيث لا يرى، من حيث لا يحتسب لهذا الطريق الذي يجئ منه الرزق، وكما قال بعضهم: "من اتقى الله بحث عنه رزقه، ولم يبحث هو عن رزقه"، إنما الرزق قد كتب لك فيبحث عنك ليصلك لأن ما قدره الله جل وعلا هو حاصل كائن مهما كانت الظروف والأحوال.

التقوى هي الموصلة  إلى الأهداف العليا ) إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر([ القمر: 54- 55] كما كان ذاك في الدنيا فهذا في الآخرة، ) إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا([ النبأ: 31- 35 ].

أيها المسلمون: التقوى الحقيقية أن تبادر إلى الطاعة فإذا سمعت الأذان تبادر إلى الصلاة، وإذا حل موعد الزكاة ارتجفت لأن تخرج مال الفقير الذي هو مال الله جل وعلا، وإذا حل شهر الصيام فرحت وسررت بحلوله وبادرت إلى الصيام وهكذا، وإذا ما دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى معصية من المعاصي فاعلم أن الله يراك، وحينها تجتنب هذه المعصية وتخشى الله جل وعلا وتقول: "إني أخاف الله".

أرأيتم يوسف عليه السلام عندما دعته امرأة العزيز وهي ذات منصب وجمال ما الذي منعه من ذلك؟ ما الذي منعه من اقترابها إلا التقوى.

وعندما دعي محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون أغنى قريش وأن يتزوج أحسن نسائهم وأن يكون سيدهم وأن يكون ويكون، ما الذي منعه من ذلك إلا التقوى.

وبالعكس في المقابل الذي يسارع إلى المعصية بالنظر إلى المحرم، أو بسماع المحرم، أو بالتعامل بالمال المحرم كل ذلك عباد الله نقص من تقواه بقدر ما عمل من معصيته أو ترك من واجباته.

ذاك الذي يعق والديه أو لا يصل أرحامه أو يستهزئ بشيء من شعائر الدين أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يتكاسل عن الأعمال الصالحة، كل هذا خدش في التقوى يا عباد الله.

اتق الله حيثما كنت، أما الثانية فتعالج نقص بني آدم؛ لأن الله جل وعلا خلق الإنسان من النقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون »، يخطئ ابن آدم، ويذنب ويقصر وتضعف نفسه لكن العلاج في المعلم الثاني « وأتبع السيئة الحسنة تمحها».

عن علي رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ننتظر الصلاة , فقام رجل , فقال: إني أصبت ذنبا, فأعرض عنه, فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قام الرجل, فأعاد القول, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس قد صليت معنا هذه الصلاة , وأحسنت لها الطهور؟» قال: بلى قال: «فإنها كفارة ذنبك»، وأنزل الله جل وعلا )وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفى من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات([هود: 114].

إذا ما اقترفت ذنبًا وأخطأت في حق الله جل وعلا أو قصرت في واجب فبادر إلى التوبة وتكفير السيئات وأتبع السيئة بعمل الحسنات، فإذا قصرت في الصلاة بادرت إليها أكثر، وإذا امتنعت عن شيء من حق الله في المال أخرجت من مالك، وإذا أخطأت على والديك أو قصرت في حقوقهم زدت من برك هذا هو إتباع السيئة الحسنة وحينئذ تمحى السيئة ويغفر لك هذا الذنب وتكون لك الحسنة بعشر أمثالها فيرى صحيفته حين يقدم على ربه مليئة بالحسنات، وهذا من فضل الله وكرمه.

أعانني الله وإياكم على التقوى وعلى عمل الصالحات، واجتناب السيئات ونفعني الله  وإياكم بما في الكتاب والسنة من الهدي والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

!  !!

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبًا مباركا فيه كما يحب ربنا جل وعلا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: فالمعلم الثالث وهو الذي يمثل العلاقة بين العبد وبين الناس أيًّا كان الناس قوله عليه الصلاة والسلام: « وخالق الناس بخلق حسن».

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة هذه الأمة ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر([الأحزاب: 21]،  هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنه ) وإنك لعلى خلق عظيم([القلم: 4].

أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم  عندما سئلت عنه فقالت: «كان خلقه القرآن»، يعني كان يسير على ما نزل عليه القرآن من التعاليم كلها، فكان يمثلها، فكما قال بعضهم إنه القرآن العملي الذي يمشي على الأرض، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أراد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة فليحسّن أخلاقه كما قال عليه الصلاة والسلام: « ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟  فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثا، قال القوم: نعم يا رسول الله، قال: أحسنكم خلقا»، هكذا من كان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يريد علو الدرجات فليحسن أخلاقه « أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقا».

حسن الخلق يزيد من الإيمان، فالبشاشة والصدق واللين والتعامل الحسن والوفاء بالعهود والعقود والكرم والبعد عن الجفاء والغلظة والكذب والغيبة والنميمة.

التعامل الحسن في كل وقت فإذا ما كنت في البيت امتثلت « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وإذا كنت في الشارع قلت: ) وقولوا للناس حسنا([البقرة: 83]، وإذا كنت مع والديك تذكرت ) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا([الإسراء: 23]، وعند توجيه الناس ودعوتهم عملت بقول الله جل وعلا: ) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ([فصلت: 33]، و ) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ([النحل: 125]، وإذا أمرت بمعروف فليكن أمرك بالمعروف، وإذا نهيت عن منكر فليكن نهيك عن المنكر غير منكر.

وإذا تعاملت في البيع والشراء انطبق عليك قوله عليه الصلاة والسلام: « رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، هكذا الخُلُق.

وإذا كنت تعامل الناس في الوظيفة وفي أخذ المال وغيره عاملتهم بالصدق والوفاء بذلك ولم تبخل عليهم بشيء من الوقت أو الكلمة الطيبة أو إخلاف الوعود أو غير ذلك.

أيها المسلمون: ما بال أقوام من المؤمنين كلامهم غلظة، ومعاملاتهم جفاء، في بيوتهم، ومع أسرهم، ونسائهم ، وأولادهم حتى يؤول الأمر إلى الطلاق والعياذ بالله.

وما بال أقوام أخر إذا ما صاحبوا الناس صاحبوهم بسيء الألفاظ بالشتائم والسباب، وإذا ما ابتعدوا عنهم عاملوهم بالغيبة والنميمة والبهتان.

وما بال أقوام أخرى إذا باعوا أو اشتروا كانوا كذابين ويغشون ويدلسون وقد ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « من غش فليس مني».

هكذا عباد الله من يريد القرب من رسول الله يبتعد عن هذه الأعمال المشينة، ومن لا يستطيع ذلك يحاول أن يكتسب الخلق، فالخلق منه فطري ومنه مكتسب، والذي يجاهد نفسه سوف يوفقه الله ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا([العنكبوت: 69].

المسلم الحق هو من يمتثل هديه صلى الله عليه وسلم في أخلاقه ليصل إلى الغايات العليا وهي القرب منه صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين.

اللهم اجعلنا من أهله ومن صحابته يوم القيامة، وأوردنا حوضه واجعلنا نشرب منه شربة لا نظمؤ بعدها أبدا، ووالدينا وأهلنا وإخواننا وأخواتنا والمسلمين يا رب العالمين.

أن يتقبأن يتقبل من الجميع

و وصلوا عليه كما أمركم الله جل وعلا في محكم كتابه العزيز: ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما([الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

!!!



بحث عن بحث