وقفات مع قصة يوسف عليه السلام (5)

   الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبيناً محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: عباد الله! فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102].

عباد الله ! ما زال الحديث عن قصة يوسف عليه السلام، ننهل من معين خيرها ونتفيأ ظلالها ونستفيد من دروسها قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفضيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون].

عباد الله ! وعندما دخل إخوة يوسف عليه السلام، تعامل معهم بأخلاق النبوة، واستقبلهم وأكرمهم دون أن يعرفهم على نفسه، وعرف منهم أن لهم أخاً صغيراً، وهو أخ من أبيهم، ولما عرف هذا منهم أراد أن يُحضروا أخاهم الصغير : (ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين) [يوسف: 59] وطمأنهم بأن أخاهم الصغير سيكون في أمان في مصر؛ لأنهم سينزلون في ضيافته، وهو يكرمهم في نزلهم؛ لأنه خير المنزلين المضيفين، وبعد أن رغبهم بإحضار أخيهم، هددهم بأنهم إن لم يأتوا به، فلن يجدوا الطعام ولا الكيل- (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) [يوسف: 60] لقد فوجئوا بطلب عزيز مصر، وفوجئوا أكثر بتهديده لهم؛ لأنهم يعرفون صعوبة تنفيذه، فأخوهم الصغير أثير عند أبيهم يعقوب عليه السلام، وأبوهم لا يأتمنهم عليه، بعد جريمتهم ضد يوسف، ولهذا أجابوا قائلين: (سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون) [يوسف: 61] وأراد يوسف عليه السلام إغراءهم بالعودة ومعهم أخوهم، فأعاد معهم بضاعتهم ضمن ما حمَّلهم من الحبوب: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) [يوسف: 62]، وكان الإخوة قد أحضروا معهم بضاعة من منتوجات أرضهم، يشترون بها القمح والحب من مصر، فأمر يوسف غلمانه بدس البضاعة التي أحضروها بين الحبوب التي حملوا بها جمالهم، والهدف من ذلك هو أن يعرفوا عند تفريغ أحمال الجمال أنهم لم يدفعوا ثمن الحبوب التي أخذوها من العزيز، فها هو العزيز يعيد لهم بضاعتهم ويعطيهم الحبوب مجاناً، وهذا يدعوهم إلى العودة إلى مصر، لأخذ أحمال أخرى، ويبدو أن يوسف عليه السلام دفع ثمن الجمال العشرة التي حملها لهم من حسابه، بعد أن أعاد لهم بضاعتهم ضمن الحبوب!! وأراد إكرام أهله بذلك !!

أيها المسلمون! عادة الإخوة بالحبوب إلى أبيهم، ومع كلٍ منهم حمل بعير من الحبوب، وكانوا معجبين بحسن ضيافة عزيز مصر لهم، ولكنهم كانوا متأثرين لطلبه منهم إحضار أخيهم معهم، ويخشون أن لا يوافق أبوهم على ذلك، وما كانوا يعلمون أن عزيز مصر قدم لهم أحمال جمالهم من الحبوب مجاناً، وأنه لم يأخذ أثمانها، وأنه أمر بدس الأثمان داخل الأحمال والرحال، فلما وصلوا إلى أبيهم، بدؤوا يفكرون في طريقة إقناعه، بالموافقة على إرسال أخيهم معهم، ودونكم أيها الإخوة مشهد مراودتهم لأبيهم: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنَّا له لحافظون قال هل ءامنكم إلاَّ كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين) [يوسف 63-64].

عباد الله ! ولما دخل الأبناء على أبيهم، سارعوا بإخباره بالخبر المزعج: (فلمَّا رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنَّا له لحافظون) [يوسف: 63] ، لكن كلامهم لأبيهم أثار في نفسه كوامن الحزن على يوسف واللوم لفراقه، وتذكروا ما قالوا له سابقاً عندما أخذوا يوسف، وظن أنهم سيعيدون الكرة من جديد، فصارحهم بقوله: (قال هل ءامنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه من قبل) لكن رد على تعهدهم بحفظ أخيهم بقوله: (فالله خيراً حافظاً وهو أرحم الراحمين) [يوسف: 64] وقد كان هذا الحوار بين يعقوب وبين أبنائه فور قدومهم من السفر، وقبل أن يفكوا أحمالهم، ويروا أمتعتهم ولما يأخذوا من أبيهم موافقة على إرسال أخيهم معهم، ففوجئوا : ( ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم) ولما فتحوا المتاع ، ونظروا في الحبوب التي أحضروها، فوجئوا ببضاعتهم مع الحبوب، ولم يكن عندهم علم بأن عزيز مصر –يوسف- قد أمر غلمانه بوضع بضاعتهم وسط الحبوب! ولم يأخذ منهم الثمن! وقد فوجىء أبوهم أيضاً برد البضاعة! (ورقة) ضغط أخرى عليه، ليوافق على إرسال أخيهم معهم، فقالوا له: (يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير) [يوسف: 65]، ولهذا نجح الإخوة في إقناع أبيهم بالموافقة على إرسال أخيهم معهم وليس أمامه إلا الموافقة، لكن موافقته كانت مشروطة : (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) ، أي: لا بد من التوثيق باليمين المغلظ والقسم المؤكد بالله، ليكون هذا عهداً ملزماً لهم، وموثقاً يقيدهم (إلا أن يحاط بكم) بأن ينزل بكم بلاء ليس بالحسبان، فتعجزوا عن حفظه وإعادته، عندها لا تثريب عليكم.

عباد الله ! وقبل أن يتوجه الإخوة الأحد عشر إلى مصر، ومعهم بضاعتهم، قدَّم لهم أبوهم نصيحة تتعلق بكيفية دخولهم مصر: (وقال يا بني لا تدخلوا من بابٍ واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) وهنا وقفة: وهي أن استعمال الأسباب الواقية من العين أو غيرها غير ممنوع بل جائز أو مستحب بحسب حاله، وإن كانت جميع الأمور بقضاء الله وقدره، لكن الأسباب الواقية من قضاء الله وقدره، تشترط بأن يفعلها العبد وهو غير معتمد على سببها لأن يعقوب عليه السلام حين أراد أن يوصي بنيه لما أرسل بنيامين معهم قال: (وما أغني عنكم من الله من شيء) [يوسف: 67].

  والشريعة جاءت بإثبات الأسباب النافعة الدينية والدنيوية، والحث عليها مع الاستعانة بالله، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) . 

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث