قصة يوسف عليه السلام (4)

الخطبة الأولى

  الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على نهجهم واهتدى، أما بعد:

عباد الله!

   كنا في الجمعة الماضية في مجلس الملك، وقد رأى رؤيا أهمته، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية، ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات: (وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) [يوسف: 43-44]. وهنا فوجىء "ساقي الملك" بعجز الملأ عن تأويل رؤيا الملك، فتذكر صاحبه السجين" يوسف" بعد هذه السنين ، وعِلْمه بتأويل الرؤى، لأنه أول له رؤياه وصح تأويله، وها هو الآن يسقي الملك- فطلب من الملأ إرساله إلى يوسف، يعبر الرؤيا للملك! قال تعالى: ( وقال الذي نجا منهما وادَّكَر بعد أُمَّةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) [يوسف: 45] ومعنى (ادكر) أي تذكر بعد نسيان، تذكر يوسف في السجن، وعِلْمه الصادق بتأويل الرؤى.

عباد الله! ويسدل الستار هنا، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا وهو يستفتيه : ( يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبعٌ عجاف وسبعِ سنبلاتٍ خضر وأُخَر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) [يوسف: 46] .

   ومن كمال أخلاق يوسف الكريم أنه لم يعاتب هذا الذي وصاه بأن يذكره عند ربه فنسي، وجاءه يسأله عن رؤيا الملك، فأجابه ولم يعاتبه أو يعنفه، ولا عجب فهذه أخلاق الأنبياء التي جعلتهم قدوة لمن بعدهم في ذلك.

أيها المسلمون! وقد عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بقوله: (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلن ما قدمتم لهن إلاَّ قليلاً مما تُحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يَعْصِرون) [يوسف: 47-49] فسَّر يوسف عليه السلام وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير، فأخبرهم أن البقر السمان والسنابل السبع الخضر، وهي سنون رخاء وخصب متواليات تتقدم على السنين المجدبات، وأن البقر العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها، وأن بعد هذه السنين المجدبات عاماً فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون، وأنه ينبغي لهم في هذه السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة، ويعدوا العدة للسنين الشديدات، فيزرعون زروعاً هائلة أزيد بكثير من المعتاد، ولهذا قال: (تزرعون سبع سنين دأباً) أي أراد منهم أن يزرعوا زروعاً كثيرة ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه ، وأنهم يحتاطون في الغلات إذا حصدت بالتحصين والاقتصاد، فقال: (فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون) [يوسف: 47] أي اجعلوا الحاصل من الزرع محفوظاً يسلم به من الفساد والسوس بأن يبقى في سنابله ، ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء، فلا يسرفون في الإنفاق، بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير، وإن بعد هذه السنين المخصبات سيأتي عليكم سبع سنين مجدبات شديدات، وأنها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب إلا قليلاً مما تُحصنون.

عباد الله! ونلاحظ في تأويل الرؤيا أن يوسف عليه السلام لم يكتف بمجرد تأويلها، بل إنه قدم للملك والنظام النصائح النافعة والتوجيهات السديدة لحسن التصرف، ويضع لهم الخطة المتكاملة لمواجهة الشدائد القادمة عن طريق- خطة سبعية- اقتصادية مالية زراعية بجانبيها: الإيجابي والسلبي! وهذا فيه إشارة أن يوسف في بعد نظره وتخطيطه المستقبلي للأحداث، قد أدار الأمور بحكمة عجيبة وسياسة رائعة في سبع الرخاء، والاستعداد للسبع الشداد، فمرت الأمور بسلام، ولم يصب الأمة ما قد يتوقع ويحدث من مكروه.

أيها المسلمون! وهنا ينتقل السياق إلى المشهد التالي، ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك، ويحذف من السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها، وعن سجنه وأسبابه ، والحال التي هو فيها، كل ذلك يحذف من السياق ولا يُرى في المشهد، لنسمع النتيجة من رغبة الملك في رؤيا يوسف وأمره أن يأتوه به: (وقال الملك: ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) [يوسف: 50-51] لقد أعجب الملك بتأويل يوسف، وطلب إحضاره إليه، ولكن يوسف رفض الخروج من السجن بعفو هذا الملك، وطالب الملك بإعادة بحث القضية من جديد، فأعاد الملك المحاكمة، وأتى بالشهود، فقدمت النسوة شهادتهن ببراءة يوسف، واعترفت امرأة العزيز بأنها هي التي راودته عن نفسه، وأنه عفيف طاهر، هكذا ثبتت لهم براءة يوسف، وحكموا بأنه بريء، وبهذا تنتهي هذه المحنة الأخيرة في حياة يوسف- عليه السلام- ، محنة السجن، حيث ستأتي المنح والنعم والعطاء بعد ذلك: قال تعالى: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إنَّ ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرِّىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلاَّ ما رحم ربي إنَّ ربي غفور رحيم) [يوسف: 50-53].

عباد الله! وبعدما انتهت المحن التي قدرها الله على يوسف، والتي كانت تمهيداً لمرحلة المنح والعطايا الربانية حيث كانت إعداداً له لهذه المرحلة، نحن الآن وإلى آخر لقطات قصته مع يوسف عليه السلام وهو يتعامل مع المنح والعطايا بنجاح.

أيها المسلمون! لقد تبين للملك براءة يوسف، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة، وكذلك تبينت له كرامته وإباؤه، فهو لا يتهافت على الخروج من السجن، ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته، المسجون ظلماً يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه، وكل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل حين قال (ائتوني به أستخلصه لنفسي) [يوسف: 54] أي يطلبه ليجعله بمكان المستشار والصديق الخاص المؤتمن، فلما كلمه تحقق له صدق ما توسم، فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وأمان (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) [يوسف: 54] فرد يوسف على تكريم الملك له قائلاً : (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) [يوسف: 55] لقد طلب يوسف من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، أي أن يكون مسؤولاً عن الخزائن والأموال والتموين والاقتصاد في المرحلة القادمة، وأخبر الملك عن مؤهلين من مؤهلاته لهذا المنصب: (إني حفيظ عليم) أي يحفظ الأمانة والعهد والمال والدخل، ويملك من العلم والخبرة ما يعينه على أداء هذه المهمة الخطيرة، لقد أراد يوسف أن يكون على خزائن الأرض؛ ليقوم على خدمة الناس، ولم يكن يوسف يطلب ذلك لشخصه، وإنما أراد ذلك ليحسن إدارة أمور البلاد الاقتصادية والمالية في سنوات المحنة القادمة، ولقد استجاب الملك لطلب يوسف، فجعله على خزائن الأرض طيلة السنوات الخمس عشرة القادمة.

عباد الله : وهكذا مكنَّ الله سبحانه ليوسف في الأرض، وعوضه عن المحنة بمنحة ومكانة في الأرض، وهذه البشرى جزاءً وفاقاً على الإيمان والصبر والإحسان (وكذلك مكنَّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) [يوسف: 56-57].

   فاتقوا الله عباد الله واستغفروه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث