واجب الدعاة الحرص على طلب العلم:

إذا كان العلم صفة أساسية في الداعية، فعلى الدعاة إذا أرادوا الفلاح والتوفيق والنجاح لدعوتهم، أن يكونوا على فقه في دين الله، وأن يستكثروا في فترات أعمارهم كلها من العلم النافع، عملًا بقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وإنما رغب الإسلام في العلم، وحث على طلب الزيادة منه لأمور:

أولها: العلم دليل الإيمان:

إن القرآن الكريم يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان ودليلًا إليه، قال تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج : 54]، فهذه المعاني الثلاثة مترتب بعضها على بعض: فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا تعقيب، ليعلموا فيؤمنوا.

والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإخبات والتواضع لله رب العالمين.

وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفين جنبًا إلى جنب كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم : 56]، فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان يسيران جنبًا إلى جنب، ومن هنا نجد أن الله تعالى في القرآن الكريم ينوه بالذين ﴿ (#qè?ré&zNù=Ïèø9$# بأنهم هم الذين يعرفون قيمة القرآن الكريم ويؤمنون به، ويتأثرون بما فيه: ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴿107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴿108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 – 109].

لذلك كانت أولى الآيات التي نزلت على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  تشيد بالعلم والتعلم والقراءة: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1-5] والقراءة عنوان العلم ومفتاحه ومصباحه، هكذا كان أول أمر من الله في الإسلام: ﴿أقرأ﴾ وقد كرره مرتين في هذه الآيات تأكيدًا لأهميته، ولكنها ليست مرد قراءة، ولكن قراءة باسم الرب الخالق، ومعنى أنها باسمه: أنها بإذنه وأمره ومباركته، فهي قراءة إيمانية، وهي تشير إلى أن العلم في الإسلام لا بد أن يكون في حضانة الإيمان بالله، وبهذا يكون العلم أداة خير، لا معول هدم، يكون للتعمير لا للتدمير.

ثانيها: العلم إمام العمل:

العلم في الإسلام يسبق العمل، ويدل عليه ويرشد إليه، وهذا ما ذكره الإمام البخاري : في كتاب «العلم» من صحيحه، واستدل عليه بالقرآن من مثل قوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، فبدأت الآية بالعلم بالتوحيد، وثنت بالاستغفار وهو عمل، وفي حديث معاذ المشهور في فضل العلم الذي ذكره ابن عبد البر وغيره: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة»، وفيه قال: «وهو إمام والعمل تابعه».

وعنى هذا، فإن العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له، فكل عمل لا يكون مبنيًا على علم، فهو غير نافع لصاحبه، بل مضرة عليه، كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم، ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود، فالعلم هو الميزان وهو المحك.

قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك : 2].

قال الفضيل بن عياض في تفسير «أحسن العمل»: هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وقد قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقًا لسنة رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، مرادًا به وجه الله، ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم، فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكن إرادته وحده، فلولا العلم لما كان عمله مقبولًا، فالعلم هو الدليل على الإخلاص، وهو الدليل على المتابعة، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة : 27].

ولهذا قال المحققون: إن العامل بلا علم كالسائر بلا دليل، ومعلوم أن عطب مثل هذا أقرب من سلامته، وإن قدر سلامته اتفاقًا نادرًا فهو غير محمود، بل مذموم عند العقلاء.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول».

ثالثهما: العلم هو العاصم من الزلل والحافظ من الفتن:

العلم يعصم صاحبه من الزلل، ويصونه من الفتن، ويحميه من الفشل، وأوضح دليل على ذلك قوم قارون، قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿79 وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص : 79 – 80].

فالآيتان تصوران حال فريقين: فريق همته دنية ينظر إلى عاجل الأمور وظواهر الأشياء، فالحظ العظيم عندهم نعيم الدنيا وزينتها، ولا نظر عندهم إلى ما عند الله من خير وفضل، وإن همةً جعلت هذا غاية مرادها، ومنتهى مطلبها لمن أدنى الهمم وأسفلها، وأدناها، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية، والمطالب الغالية.

أما الفريق الآخر فقد عرفوا - بفضل العلم - حقائق الأشياء، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر أولئك إلى ظاهرها، ومن ثم أدركوا أن ثواب الله وما عنده من فضل وخير مما تمنوا، فهذه حقيقة الأمر، ولكن ما كل من يعلم ذلك يقبل عليه، فما يلقى ذلك ويوفق له: ﴿إلا الصابرون﴾ الذين صبروا على جواذب الدنيا وشهواتها أن تشغلهم عن ربهم، وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له، فهؤلاء الذين يؤثرون ثواب الله على الدنيا الفانية.

ويوضح الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم  أثر العلم في صيانة المجتمع من التفكك فيقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالـمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

وموطن الشاهد من الحديث أن غياب العلم عن ساحة الناس بغياب حملته إيذان بحلول الفوضى والاضطراب، حيث يكون البديل –وقتئذ- جهّال يفتون بغير علم، فيضلون بأنفسهم، ويضلون غيرهم.

لذا يقول الحسن البصري رضي الله عنه : «العامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبًا لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا تضروا بالعلم، فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد  صلى الله عليه وسلم  ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا».

ولعل ألصق الأمثلة بهذه المسألة ما ذكره رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في شأن الخوارج، حيث يقول  صلى الله عليه وسلم : «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم على صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية».

وفي رواية أخرى في شأن هؤلاء القوم أيضًا: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان».

وما طوائف البغي - في عصرنا - الذين يسفكون الدماء ويقتلون الأبرياء ويخرجون على ولاة الأمور ببعيدين عن هؤلاء.

من أجل هذا – وغيره - كانت توجيهات الإسلام إلى ضرورة طلب العلم، والحرص على الاستكثار منه، يقول الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم : «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، وعن سفيان ابن عيينة قال لأصحابه: «من أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قالوا: قل يا أبا محمد قال: ليس أحدًا أحوج إلى طلب العلم من العالم، لأنه ليس الجهل بأحد أقبح من العالم».

والآيات والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة، وقد أفرد الإمام ابن القيم في مقدمة كتابه: «مفتاح دار السعادة» عددًا من الصفحات للحديث عن فضل العلم وأهله وعموم الحاجة إليه، وذلك من وجوه وصلت عنده إلى أكثر من مائة وخمسين وجهًا. رحمه الله رحمة واسعة.



بحث عن بحث