من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنكار المنكر:

 إذا كان إنكار المنكر واجبًا شرعيًا لا تبرأ الذمة إلا بالقيام به حماية لدين الله تعالى وغيرة على محارمه، فإنكار المنكر له فقه يجب على الداعية إلى الله تعالى أن يتنبه له حتى يكون الإنكار محققًا للحكمة الشرعية من فرضية القيام به، ومن فقهه ما يلي:

1 – الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيه، وتجديده بين الحين والآخر، ومعاهدة القلب ألا ينحرف في مقاصده من أن يكون القصد منحرفًا رياء أو سمعة أو طلب دنيا أو شهرة، أو غير ذلك. والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصر، ومنها قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة : 5] وقوله: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر : 2]، وقوله  صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى».

2 – ومن مقرراته: العلم، والمقصود به العلم بالمعروف بأنه معروف، والعلم بالمنكر بأنه منكر، وهذا يبنى على العلم الشرعي المستنبط من كتاب الله تعالى وسنة نبيه  صلى الله عليه وسلم ، وسيرته، وأحواله عليه الصلاة والسلام، والذي فصّله أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى. كما هو أيضًا مفصل في القاعدة الثالثة.

3 – فقه المصالح والمفاسد بمعنى أن يتفحص الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر نفسية المأمور والمنهي، فإن غلب على ظنه أنه لو أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فإن ذلك سيؤدي إلى ضرر أكبر حرم عليه حينئذ أن يأمره وينهاه.

ومثال ذلك: أن ترى زيدًا من الناس محافظًا على صلاته لكنه حالق لحيته، ولا شك إن إعفاء اللحية معروف لأنه اتباع لسنة النبي  صلى الله عليه وسلم  وحلقها منكر لأنه مخالف لهدي النبي  صلى الله عليه وسلم ، فإذا غلب على ظنك أنك لو أنكرت عليه حلق اللحية لأخذته العزة بالإثم بحيث يجره ذلك إلى ترك الصلاة، فإنك حينئذ لا تنكر عليه حلق اللحية بناء على القاعدة الشرعية بأنه يرتكب الضرر الأصغر في سبيل إزالة الضرر الأكبر، ولا شك أن ضرر ترك الصلاة أكبر بكثير من ضرر حلق اللحية. كما سبق ذلك في قاعدة: فقه المصالح والمفاسد.

4- ألا ينكر على أحد في شيء مما هو من مسائل الاجتهاد في الفروع، لأن الخلاف في الفروع ليس بدعًا في الدين، وإنما هو مما يجعل الناس في سعة من أمرهم كما أثر عن عمر بن عبد العزيز : أنه قال: «ما وددت أن أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لم يختلفوا، إن اختلافهم رحمة».

ولا يعني هذا أن يتنقل من قول إلى قول حسب رغبته، بل هذا الفعل مذموم، وربما يؤدي إلى الانحراف والبعد عن الدين، وإنما هذا راجع إلى أهل العلم الذي يأخذ قولًا بدليله ويترجح له، كما لا يعني عدم المناقشة والمذاكرة لما يراه الشخص راجحًا وغيره يراه مرجوحًا.

5 - أن يحذر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الزهو بحاله والعجب بنفسه حال أمره ونهيه حتى لا يتعالى على من يأمره وينهاه فيعامله معاملة المغرور المتكبر، فإن تلك مزلة خطيرة يوقع فيها الشيطان حتى يجعلها سببًا في أن يعرض العاصي عن قبول دعوة الإيمان ليوغل في الانحراف والطغيان، بل يجب على الآمر والناهي أن يتواضع لله تبارك وتعالى فيمن يأمره وينهاه فيدعوه إلى الخير ويحذره من الشر برفق ولين وسماحة خلق، فليس هذا العاصي بأشد جرمًا من فرعون الذي نازع الله تبارك وتعالى في خاصيتين من خصوصياته وهما الألوهية والربوبية حين قال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص : 38]، وحين قال: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات : 24]، وليس ذلك الآمر والناهي بأشد إيمانًا من نبي الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام ومع ذلك فإن الحق تبارك وتعالى حين بعثهما إليه أمرهما بقوله: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه : 44].

والله تبارك وتعالى لم يجعل سبب الالتفاف حول نبيه محمد  صلى الله عليه وسلم  النبوة والرسالة، وإنما جعل سبب الالتفاف حول نبيه محمد  صلى الله عليه وسلم  سماحة خلقه وطيب معشره وكرم تعامله حين قال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].

وعلى الداعية إلى الله تبارك وتعالى – في حال أمره ونهيه – أن يجعل هذا الفقه هديه الذي لا يحيد عنه، كيف لا؟ وهو هدى قدوته في هذا الطريق نبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام الذي كان يأمر بلين وينهى برفق، فإذا أدماه قومه بالحجارة مقابل نصحه لهم رفع يديه إلى السماء قائلًا: «اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون».

وقد ورث سلفنا الصالح – رحمهم الله تعالى – جميعًا هذا الهدي النبوي الكريم ممن بعثه رحمة للعالمين عليه الصلاة والسلام فأثمرت دعوتهم ونفع الله تعالى بأمرهم ونهيهم، فقد كان أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه  إذا مروا بقوم رأوهم على منكر قالوا لهم: «مهلًا رحمكم الله، مهلًا رحمكم الله»، من غير تعنيف عليهم أو تسفيه لهم.

وقد أُثِر عن سفيان الثوري : أنه قال: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل بما ينهى، عالم بما ينهى»، وذلك لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ليس جبارًا متسلطًا وإنما هو بمنزلة الطبيب الحاني فلا يعنف ولا يتعسف، بل يأمر وينهى بدافع النصيحة للمسلمين، وبوازع الرحمة لهم والشفقة عليهم، لإنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من مغبة العصيان والمخالفة، والمناسب لذلك إنما هو لين الجانب وكريم التخاطب.

6 - أن يتحين الآمر والناهي وقت إقبال القلوب، فإن للقلوب إقبالًا وإدبارًا فإذا علم الآمر والناهي أن قلب من يريد أمره ونهيه في حالة إقبال تعين عليه حينئذ أن يأمره وينهاه، فذلك أدعى إلى أن يقع الأمر والنهي في قلبه موقع الرضا والقبول، كأن يكون بذلك تأثرًا بالغًا جدًا، فلا شك أن استغلال هذا الظرف لتذكيره بالله تعالى والخوف من الوقوف بين يديه وأن الدنيا لا محالة منقطعة زائلة، ثم النزول في حفرة ضيقة موحشة لا يكون بعدها إلا جنة المأوى أو النار التي تتلظى، لا شك أن مثل هذا في مثل هذا الظرف سيكون مفيدًا فائدة كبيرة في الوصول إلى قلبه، ومن ثم هدايته إلى الخير بإذن الله تبارك وتعالى.

7 – الصبر، والحلم، والتحمل، وبعد النظر، وفقه الأولويات، وسائر الأخلاق النفسية والعقلية، كلها عناصر مهمة في فقه الأمر والنهي، أو البناء والمعالجة، وتركت التفصيل فيها لوضوحها لطالب العلم والداعية، والإشارة تغني عن الإطالة.

وفقه البناء والمعالجة ليس حكرًا على هذه الجوانب السابقة، بل هو نور يقذفه الله جل شأنه وعز سلطانه في قلوب الصادقين من عباده، فمن صدق النية وتجرد لله تعالى في أمره ونهيه فتح سبحانه على بصيرته من فقه الإنكار ما يجعله يحسن التصرف في كل موقع بما يناسبه ويتلاءم معه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]. وقال سبحانه: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

مراتب تغيير المنكر:

المنكر الذي يجب أن تتظافر الجهود لإزالته وتغييره له ثلاث مراتب بينها النبي  صلى الله عليه وسلم  بقوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».

المرتبة الأولى:

التغيير باليد، وهذا يأتي فيمن للمنكر عليه ولاية، كالحاكم مع رعيته، والأب مع أولاده، والمعلم مع طلابه، والتغيير باليد حسم للمنكر وقطع لدابره، واجتثاث له من عميق جذوره حتى يصبح أثرًا بعد عين، ولذلك كانت هذه المرتبة أعلى درجات مراتب التغيير.

ويرد السؤال: متى يُلجأ إليها؟ والجواب إذا احتيج إليها، بمعنى أنها ليست أولى المراتب، فيبدأ بها، ولكنها أعلا المراتب إذا تطلب الأمر فتنبه.

المرتبة الثانية:

التغيير باللسان، لمن لا يملك سلطة التغيير باليد، ويكون ذلك بالإرشاد والتوجيه والوعظ عن طريق التخويف بالله تبارك وتعالى والتحذير من مغبة إتيان هذا المنكر أو الإصرار عليه، ومع ذلك له ضوابط مهمة، ومنها:

1- التدرج في هذا الإنكار فتستخدم من الألفاظ والعبارات مما يظن أنه يحقق النتيجة، فيبدأ بالكلمة الرقيقة الودود، واستعمال صيغ العموم دون ذكر اسم صاحب المنكر إتباعًا للسنة، وأنفع للعلاج، وما يدفع بالأدنى لا يلجأ فيه إلى الأعلى والأشد، وقد يكون الإسرار بالإنكار أولى من الإشهار.

2- أن يبتعد الناهي عن المنكر عن ذكر الأسماء والأشخاص والهيئات، لأن التسمية والتخصيص قد يتعرض معهما الناهي للعقوبات والجزاءات ولا تؤدي الغرض المطلوب.

3- هنالك منكرات في المجتمع ثبت منكرها عند الناس جميعًا، والنهي عنها مقبول لدى المجتمع، وذلك مثل الزنا والخمر والمخدرات والخلوة، فمثل هذه المنكرات ينادى بالإنكار على مستوى المجتمع خطبًا ومحاضرات وكتابات وغيرها.

4- إن جمع الإحصائيات والبيانات والأخبار والتقارير حول بعض المنكرات تجعل الحجة في المقاومة أقوى وأوسع، وهي مما تمس الحاجة إليه في هذا الوقت الذي تقام فيه البحوث على هذه الإحصاءات.

5- إن التحري الدقيق لصدق المعلومات أساس في إصابة الهدف، والمبالغة والكذب يحرمان الداعية من صلابة الموقف وصدق الدعوة، ومن ثم أهمية النتيجة وحسنها.

المرتبة الثالثة:

التغيير بالقلب، وقد جعله النبي  صلى الله عليه وسلم  رتبة معتبرة، ومن لم ينكر المنكر بقلبه فليس في قلبه شيء من الإيمان، إذ أن إنكار المنكر بالقلب هو القاعدة الأساس، وهذه القاعدة مشتركة بين جميع المراتب، فمن أنكر بيده فلابد أن يكون منكرًا بقلبه، من أنكر بلسانه فلابد أن يكون منكرًا بقلبه أيضًا، والإنكار بالقلب معناه مقت المنكر وكرهه والاشمئزاز منه، ومن كره شيئًا وعاداه بقلبه فلابد أن تتحول هذه الكراهية إلى عمل إيجابي يظهر في كلماته وحركاته وسكناته، فالعاطفة المتأججة هي مصدر الحركة والفعل، وهذه الرتبة رتبة عامة يقدر عليها كل مسلم في كل زمان ومكان، وشرطها عدم الرضا والشعور بالسخط على المنكر وأهل المنكر. وأدنى درجات هذه الرتبة اعتزال المنكر والابتعاد عنه.



بحث عن بحث