r  الشريعة جاءت لمصالح العباد:

ومن القواعد المقررة: أن الشريعة الغراء جاءت لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، فقد أنزل الله على عبده ونبيه محمد  صلى الله عليه وسلم  شريعةً كاملةً وشاملةً تراعي تلك المصالح العائدة عليهم في دنياهم وأخراهم، قال تعالى مبينًا هذه الحقيقة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة المائدة: 6].

فأخبر سبحانه وتعالى أنه لم يأمرهم بذلك حرجًا عليهم وتضييقًا ومشقةً؛ ولكن إرادة تطهيرهم وإتمام نعمته عليهم ليشكروه على ذلك, فله الحمد كما هو أهله، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[سورة النساء:28].

وفي الحديث قوله  صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ». وقوله  صلى الله عليه وسلم : «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

وقوله  صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ, وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا صلى الله عليه وسلم لَبَهُ, فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا, وَأَبْشِرُوا, وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِن الدُّلجَةِ».

وقوله  صلى الله عليه وسلم :«لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً, إِنِّي أُرْسِلتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ».

فالشريعة الغراء راعت مصالح العباد في كل شيء؛ لأنها رحمة كلها، وجاءت من الرحمن الرحيم، يقول ابن القيم :: «وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى آخرها شاهدةً بذلك، ناطقةً به، ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة باديًا على صفحاتها، مناديًا عليها، يدعو العقول والألباب إليها، وأنه لا يجوز على أحكم الحاكمين ولا يليق به أن يشرع لعباده ما يضادّها، وذلك لأن الذي شرعها علم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظلم والسفه الذي يتعالى عن إرادته وشرعه، وأنه لا يصلح العباد إلا عليها، ولا سعادة لهم بدونها البتة».

يقول الإمام ابن حزم: «إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما، ثم ادعى مدعٍ أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل، من أجل أنه انتقل ذلك الشيء المحكوم فيه عن بعض أحواله أو لتبدل زمانه، أو لتبدل مكانه، فعلى مدعي انتقال الحكم من أجل ذلك أن يأتي ببرهان من نص قرآن أو سنة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ثابتة على أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل ، فإن جاء به صح قوله، وإن لم يأت به فهو باطل فيما ادعى من ذلك، والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشيء المحكوم فيه عليه؛ لأنه اليقين، والنقلة دعوى وشرع لم يأذن الله تعالى به، فهما مردودان كاذبان حتى يأتي النص بهما».

ويقول :: «فإن قيل: وما الدليل على تمادي الحكم مع تبدل الأزمان الأمكنة؟ قلنا وبالله التوفيق: البرهان على ذلك: صحة النقل من كل كافر ومؤمن على أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أتانا بهذا الدين، وذكر أنه آخر الأنبياء وخاتم الرسل، وأن دينه هذا لازم لكل حي، ولكل من يولد إلى يوم القيامة في جميع الأرض، فصحّ أنه لا معنى لتبدل الزمان، ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا، في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال، حتى يأتي نص بنقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى. وكذلك إن جاء نص بوجوب حكم في زمان ما، أو مكان ما، أو في حال ما، وبين لنا ذلك في النص، وجب أن لا يتعدى النص، فلا يلزم ذلك الحكم حينئذ في غير ذلك الزمان، ولا في غير ذلك المكان، ولا في غير تلك الحال، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [سورة الطلاق:1]».

وبناءً على هذا ندرك أن القرآن والسنة - وهي نصوص الإسلام الأصلية الموحاة- محفوظة بكل حروفها وألفاظها ومعانيها، وهذا الحفظ يجعل للإسلام -وهو الرسالة الإلهية الأخيرة للبشرية ــ ميزةً وخاصيةً فريدةً بشموليته وصلاحيته للتطبيق، ولسعادة البشرية إلى أن تقوم الساعة دون تغيير أو تحريف أو تأويل لنصوصه تأويلًا يخرج عن القواعد والضوابط الشرعية.

وعلى هذا نعلم أن التجديد للدين ينطلق من تلك الأصول الثابتة المقررة التي لا تتبدل ولا تتغير، وأن دعوى تغييرها، أو تعطيلها، أو الانحراف بمعانيها، وجعل الزمن حاكمًا عليها خروج بها عما أراد الله تعالى لها من إعمال في الحياة البشرية، ومن إسعاد للبشرية كلها.

وأن التجديد الحق للدين يتم بالمحافظة على هذه الأصول، وإعمالها في الواقع، منطلقًا منها، محكمًا لها في جميع جوانب الحياة كلها، وعندما تندرس معالم الدين أو بعضها، ويحييها مصلح، أو يحيي جانبًا منها في النفوس، وفي شعب الحياة، هذا هو التجديد.

فعلم بهذا بطلان الشائعات والدعاوى التي تنبعث بين الفينة والأخرى محاولةً إبطال الدين، وإهمال نصوصه، وتأويلها، ونسف قواعده، والاعتماد على العقل البشري القاصر في إسعاد البشرية.



بحث عن بحث