الـمقدمة

الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين، المبعوث رحمةً للعالمين؛ أرسله الله شاهدًا، ومبشرًا، ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا, بلّغ الرسالة, وأدّى الأمانة, ونصح الأمة, وتركها على البيضاء, ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الغر الميامين, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد...

فإن السنة النبوية كنز من الكنوز الثمينة، اهتم بها المحدثون وتعلّموها وعملوا بها وعلّموها، ونشروها للناس وقضوا جلّ حياتهم فيها، لما لها من مكانة مرموقة في الشريعة، كيف لا، وهي الأصل الثاني من أصول الشريعة, كما جاء في الحديث: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه». وهي تفسير وتوضيح للقرآن، تبين مشكله، وتفصل مجمله, وتوضح مبهمه, وتفتح مغلقه، وتسهل معضله، وهي أيضا وحي إلا أنه غير متلو, كما جاء في الحديث: فعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ, أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ, لَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ, وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ, أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ, وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِن السِّبَاعِ, أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِن مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا, وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ, فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ«(1)

فحري بنا أن نبذل الغالي والنفيس لأجلها، وننفق ما عندنا في سبيلها, ونقضي حياتنا في طلبها, ونعمل على مقتضاها، فلذا قمنا بدراسة بعض الأحاديث النبوية المشرقة؛ دراسة حديثية توجيهية ودعوية، ومنها هذا الحديث النبوي الرائع الذي يهتم بمبدأ عظيم من مبادئ الإسلام وهو «العلم بالدين والدعوة إليه». ذلك المبدأ الذي جاء فضله في كتاب الله العزيز في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[سورة فصلت: 33].

وفيما يلي من الصفحات نعيش في رحاب هذا الحديث الشريف فهماً, ودراسةً, واستنباطاً للأحكام القيمة, والدروس النافعة بقدر المستطاع, ليكون دليلًا وهاديًا لكل مسلمٍ، وبالأخص لكل داعيةٍ يريد سلوك صراط الله تعالى على فهمٍ وبصيرةٍ.

وتأتي هذه الأهمية العظيمة في مثل هذه الأوقات الحرجة التي تكالب أعداء الإسلام وتابعوهم من المنافقين والمستغربين من أبناء المسلمين على الاستهزاء بالدين وصاحب السنة نبي هذه الأمة محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة والتسليم ما تعاقب الليل والنهار-، وما نرى في هذه الأيام من هجمة شرسة عليه, واستهزاء وازدراء به, ما هو إلا حقد دفين في قلوبهم عن الدين وصاحبه. فوجب على كل فرد من أفراد الأمة مناصرته وحمايته من كل أذى يراد به، أو نقص ينسب إليه, والدفاع عنه بكل وسيلة ممكنة، وبكل أسلوب متاح له، قال تعالى: ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [سورة الفتح: 9] وبالأخص نشر سيرته الطيبة الطاهرة أمام العالم، والدعوة إلى دينه بطرق مفيدة, وبأساليب حكيمة, التي أشير إلى بعضها في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة النحل: 125], وهذا أقل القليل لما يقدم تجاهه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وقد توخيت في هذا البيان محاولة التوسط بين الإيجاز والإطناب, وقد جعلته على وقفات، مركزًا على دلالة الحديث على العلم والدعوة، بشيء من البسط الذي يذكّر العالم، ويعلّم الجاهل، سائلًا المولى عز وجل أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل هذا العمل من المدخرات، وأن يعفو عن الزلل والتقصير. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، ح: (4604), ومسند أحمد، مسند الشاميين، حديث المقدام بن معدي كرب، (4/130) واللفظ له.



بحث عن بحث