الوقفة الثالثة (2-4)

وبناءً على ما سبق: فالاستقامة والالتزام يراد بهما التمسك بالإسلام عقيدة، وعملاً، وتشريعاً، وسلوكاً، أفراداً، وأُمماً، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(1) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم«(3).

والاستقامة بهذا المفهوم -الذي ذكرنا- لا يتأتى إلا بالإيمان الكامل، واليقين التام بأن التطبيق التام لأوامر الشرع هو في مصلحة العبد أولاً وآخراً، ولا يصاحبه الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بالعروة الوثقى، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر بأمر لم يقل: إذا أردتم فافعلوا، بل كان يطلب تطبيق أوامر الشرع كلها بكل جد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(4) ، يقول ابن كثير : في تفسير هذه الآية: «يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك«(5).

فيكون المعنى -كما قال الطبري-: «أمر بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه«(6).

وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أخرجه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: «إن الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها«(7).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنَّواجذ«(8).

قال المباركفوري في «شرحه»: «والعَضُّ كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها؛ فإن مَن أراد أن يأخذ شيئاً أخذاً شديداً يأخذ بأسنانه، أو المحافظة على الوصية بالصبر على مقاساة الشدائد، كمن أصابه ألم لا يريد أن يظهره فيشتد بأسنانه بعضها على بعض«(9).

وقال ابن عباس ب في قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(10): «ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية»، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: قد أسرع إليك الشيب، فقال: «شَيَّبَتْنِي هود وأخواتها«.

قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته: «الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومَن لم يكن مستقيماً في حالته ضاع سعيه، وخابَ جهده«(11).

وقال ابن كثير : في تفسير آية هود (112): «يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك أكبر العون على النصر على الأعداء، ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطغيان والبغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك«(12).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [هود:112]

(2) [فصلت:30]

(3) رواه مسلم في الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (38).

(4) [البقرة:208]

(5) تفسير ابن كثير، سورة البقرة، آية: (208).

(6) انظر: (تفسير الطبري)، سورة البقرة، آية: (208).

(7) رواه الدارقطني في (سننه) (4/ 183)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (10/ 12).

(8) رواه الترمذي في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في (المقدمة)، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (42)، وأحمد في (مسند الشاميين) (16692).

(9) تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي) للمباركفوري، شرح حديث (2676).

(10) [هود:112]

(11) نقلاً من «شرح النووي على مسلم» لحديث (38).

(12) تفسير ابن كثير، سورة هود، آية: (112).



بحث عن بحث