مراقبة الله (2-4)
الفائدة الثالثة: قوله r: (احفظ الله تجده تجاهك)، وفي رواية أخرى: (احفظ الله تجده أمامك).
يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله-: (معناه أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله، حيث توجّه، يحوطه، وينصره، ويحفظه، ويوفقه، ويسدده، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(1)، قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وكتب بعض السلف إلى أخٍ له: أما بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإن كان عليك فمن ترجو؟)(2).
وعليه إن من حفظ الله وجده تجاهه، وأمامه في كل شيء، في الدنيا والآخرة، ولذا لما حفظ أنبياء الله ربهم حفظهم وكان معهم، يقول - سبحانه وتعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام-: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(3)، ويقول حكاية عن موسى: (قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)(4)، وقال النبي r لأبي بكر –رضي الله عنهما – وهما في الغار عند هجرتهما إلى المدينة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا)(5).
وإذا كان هذا الشأن في الدنيا، ففي الآخرة كذلك عندما يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم العصيب الشديد الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم سكارى، ولكن عذاب الله شديد.
ما أحوج الإنسان في ذلك اليوم إلى حفظ الله تعالى، ورعايته له؛ لينجو من أهوال ذلك اليوم، يقول الله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)(6).
فمن حفظ الله تعالى في دنياه حفظه الله في آخرته، فرزقه الجنة، ووقاه من النار (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(7).
إن المتأمل في أحوال كثير من المسلمين يجد أنهم لم يحفظوا الله تعالى في هذه الدنيا، فيعرضون أنفسهم لعدم حفظ الله لهم في الدنيا والآخرة.
الفائدة الرابعة: قوله r: (تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة..).
يقول ابن رجب - رحمه الله-: (يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة، فعرفه ربه في الشدة كما تعرف إليه في الرخاء، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة، تقتضي قرب العبد من ربه، ومحبته له، وإجابته لدعائه، فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدهما: المعرفة التامة، وهي معرفة الإقرار به، والتصديق، والإيمان، وهي عامة للمؤمنين، الثاني: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب بالكلية، والانقطاع إليه، والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له)(8).
وقال أيضاً: (ومعرفة الله لعبده نوعان: معرفة عامة، وهي علمه تعالى بعباده، واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه، كما قال - سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)(9)، وقال – سبحانه-: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)(10).
ومعرفة خاصة، وهي تقتضي محبته لعبده، وتقريبه إليه، وإجابة دعائه، وإنجائه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله r فيما يحكي عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنه)(11)، وفي رواية: (ولئن دعاني لأنجينه).
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه – عن النبي r أنه قال: (من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)(12).
الفائدة الخامسة: أن من عرف الله في حال شبابه عرفه ربه - جل وعلا- في حال هرمه وضعفه، ومن عرف الله في حال صحته عرفه الله في حال مرضه، ومن عرف الله في حال قوته ونشاطه عرفه الله تعالى في حال ضعفه، ومن عرف الله تعالى في حال صغره عرفه الله في حال كبره، ومن عرف الله في الدنيا عرفه الله في الآخرة، ومن عرف الله حال رخائه عرفه الله في حال الشدة.
يقول الضحاك بن قيس - رحمه الله-: "اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس – عليه الصلاة والسلام – كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(13)، أما فرعون الطاغية الذي كان ناسياً لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(14) " (15).
وروى الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله r يقول: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً – (أي لا أقدم عليهما في الشرب أحداً) – فنأى بي طلب الشجر يومًا، فلم أُرِح – أي لم أرجع – عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالا، فلبثت – والقدح على يدي – أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدميّ – أي يصيحون من الجوع – فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحبّ الناس إليّ، - وفي رواية: كنت أحبها حبّاً كأشد ما يحب الرجال النساء – فأردتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين – أي نزلت بها سنة من السنين المجدبة – فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلّي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها – وفي رواية: (فلما قعدت بين رجليها) – قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ لي أجري، فقلت: كلّ ما ترى من أجرك: من الإبل، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي؟ فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)(16).
فانظر إلى حال هؤلاء الثلاثة الذين عرفوا الله - سبحانه وتعالى- في رخائهم فعرفهم وقت الشدة، ولم ينفعهم إلا توسّلهم إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة.
(1) سورة النحل، الآية: 128.
(2) جامع العلوم والحكم 1/471.
(3) سورة طه، الآية: 46.
(4) سورة الشعراء، الآية: 62.
(5) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم 3/1125، ح 3653، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق، ح 2381، 4/1854.
(6) سورة ق، الآيات: 31-35.
(7) سورة آل عمران، الآية: 133.
(8) جامع العلوم والحكم 1/472، 473.
(9) سورة ق، الآية: 16.
(10) سورة النجم، الآية: 32.
(11) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، 4/2039، ح 6502.
(12) رواه الترمذي، ح 3382، والطبراني في الدعاء رقم 44، وقال الترمذي عن الحديث: (هذا حديث غريب)، ورواه الحاكم في المستدرك 1/544.
(13) سورة الصافات، الآيات: 143، 144.
(14) سورة يونس، الآية: 91.
(15) نقلاً من: جامع العلوم والحكم 1/475.
(16) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من بر والدين 4/1892، ح 5974.